حين بدأ ينتشر "البلوك" في سوريا في سبعينيات القرن الماضي، بدأنا نخسر نمطيْن من البيوت هما: البيوت الطينية، والبيوت المبنية من حجر. وقد أفقدَ شيوعه وسهولة التعامل معه الكثيرين من جيراننا في منطقة الفرات فرص عملهم، حيث كانوا يذهبون فجراً في سيارات خاصة لـ "قطف الأحجار" من البادية الفراتية. قريبٌ لي كان يعمل معمرجياً، رفض أن يكون جزءاً من الحيطان التي يعمرها، قائلاً: البلوك قاس! لا يرحم الأصابع، إنْ وقع عليها، وليس فيه مرونة الحجر! وخلال فترة قصيرة صار مشهد صناعة البلوك على أطراف المدن السورية مألوفاً، حيث يخلط عمال منهكون مواده الأولية (الإسمنت والبحص والرمل والماء)، ثم يديرون المحرك الذي يُرْبط بآلة تصنيع البلوك، وبعد دقائق يبدأ صبّ البلوك بقوالب محددة، بإيقاع واحد، يستدعي قوة عالية، ونمطاً من السرعة تتخللها استراحات قليلة. وكنا نحن الأطفال "نتمشور" نحو تلك الورش لنتفرج على هذا المنظر العجيب، وكيف تتحول تلك الخلطة إلى "بلوكة قاسية" أنيقة، وقد أخذنا الفضول مرة لتجريب كيف تفتيت البلوكات، بعد أن ينصرف العمال! لاحقاً، حاولتُ في مرحلة ما من شبابي أن أعمل في صناعة البلوك، حيث الأجر العالي، والوقت القصير للعمل، لكن قدرات جسدي لم تستطع مواكبة ذلك!
الحظر (البلوك) يعني القطيعة، وإلغاء العلاقة مع آخر، وسد سبل التواصل معه، افتراضياً، وتغييب الشخص المبَلَّك عن مساحات نقضي فيها أوقاتاً طويلة، والحظر تعبير عن موقف، أو استياء، أو ألم، أو هروب، وقد يكون سوء قراءة للموقف، أو حساسية زائدة، أو حذراً مبالغاً فيه، أو تعبيراً عن خيبة أمل! ولعله من المجدي، قبل أن نستمع إلى شكوى المحظورين، الإصغاء إلى أسباب الحظر، وهل رافقه تجاوز للحدود، أو تنمر ضدَّ من قاموا بعملية الحظر!
فعلُ البلوك هو بطولة "كبسة الزر"، وحرية، وفردانية قد لا يسمح بها الواقع، ويوازي "البلوك الافتراضي" القطيعةَ في الواقع
دخلت مصطلحات الحظر المعجم اللغوي العربي عبر باب "الدخيل" على اللغة، وصار لدينا: اسم الفاعل البلوكر والمبلّك، واسم المفعول المبَلَّك، والفعل: بلَّكَ وبلكتُه وبلكني، والمصدر التبليك، والجذر الأساسي البلوك!
فعلُ البلوك هو بطولة "كبسة الزر"، وحرية، وفردانية قد لا يسمح بها الواقع، ويوازي "البلوك الافتراضي" القطيعةَ في الواقع، لكن يمكنك أن تقبل المبلَّك افتراضياً في مساحات واقعية؛ كأن يكون زميلك في العمل مثلاً، وتشير الموازنة بين مستقبل الحظر الافتراضي، والقطيعة الواقعية إلى أن فرص الصلح الواقعي أكثر، فقد يحدث الصلح بحضرة صديق، أو في مجلس عام حيث تنظر العيون إلى بعضها، ثم تتعاتبان وتتصافيان، أو يحدث عكس ذلك، ويزداد الشرخ! أما الحظر الافتراضي فعالم سريٌّ، لا مجال للصلح فيه، خاصة؛ إنْ كان كل طرف يعيش في قارة!
أعقدُ أنواع البلوك يكون بين المرأة والرجل، لأنه تعبير عن موقف، تختلط فيه عدة تفاصيل، وقد يستعمل لحماية الذات، بعد أن حادت السوشال ميديا عن دورها الرئيس من خلال مشاركة فكرة، أو مناسبة اجتماعية، أو تعارف ناعم، أما إنْ غدت مدخلاً لوجع رأس، فإنَّ الحظر أحد أسهل الحلول وأفضلها، قد لا ينم عن كراهية، بقدر ما ينم عن رغبة براحة البال، أو التعبير عن "فركة أذن" لمن يتجاوز حدوده! وأبسط أنواعه هو البلوك الرمزي، المتمثل بعدم التفاعل، وإهمال ما يرسله الآخر!
شهدتُ مؤخراً "صلحة تبليك" على مائدة كباب ديري بين صديقيْن في إسطنبول، كانا قد بلّكا بعضهما قبل سنوات، مما شجعني للسعي كلما وجدتُ شخصين قد بلكا بعضهما لإزالة التبليك فيما بينهما، ولم أكتفِ في زياراتي الإسطنبولية بالمساهمة في إزالة سوء الفهم أو القطيعة الواقعية بين الأصدقاء والصديقات.
التقيتُ بشخص قال لي: أنا البلوكر رقم واحد في مدينة إسطنبول، إن لم أجد من أبلكه، قد أبلك أولادي، أو زوجتي، أو أبلك ذاتي! وراح يعدد لي الشخصيات المشهورة التي بلكها أو بلكته، متناسياً أن حسابات معظم من عدَّدهم لا يديرها أصحابها ذاتهم! وحين سألته عن صديقة مشتركة، قال بكل ثقة المنتصر: لقد بلكتها شرقاً وغرباً، وليلاً ونهاراً، حشكاً ولبكاً، وقياماً وقعوداً، وأخفيتها من هذا الوجود، ومن أحلامي، وساعات صحوي وسكري، ووحدتي، وفرحي وألمي عبر كل التطبيقات، حتى الواتس آب!
وفقاً لعمري، وتجربتي، وتجاوزي لسنّ المشاكسة، خاصة في العقد الأخير، حسبتُ أنني عصيٌّ على البلوك! لكنني تفاجأتُ بعدد من طالباتي وطلابي أول الثورة، ممن اختلفتُ معهم سياسياً أنهم شتموني، ثم بلكوني! وهناك صديق دخلتُ معه في نقاش، قبل أيام، حول العلاقة بين هيئة التفاوض والائتلاف، فقام بتبليكي، علماً أن علاقتي معه أهم عندي من هيئات، يقال عنها: إنها لم تقدم للسوريين ما يطمحون إليه!
أما قائمة المبَلَّكين عندي من الرجال فهم: ثقيلو الدم، الشبيحة، النصابون من الشحاذين، المتظارفون، وهناك فئة بيني وبينهم "تبادل تبليكي"، يشبه تبادل السفارات! راسلني صديق من حساب آخر، كنت قد بلكتُه، وقال لي: بصراحة، الهدف الرئيسي لمراسلتك لأنني وجدتُ، في آخر رسالة كتبتُها لك، خطأ إملائياً، وأريد أنْ أصححه، وأعتذرُ منك، ومن اللغة العربية! ابتسمت لظرافته، وألغيتُ "التبليك" وأرسلتُ له مباشرة: حبَّاً باللغة العربية، لا تبليك لكَ بعد اليوم!
في كتابه فلسفة البلوك يسهب الصحفي المصري محمد عبد الرحمن في الحديث عن جوانب مما فعلته السوشيال ميديا بنا، ويفصل في الإشارة إلى أخلاقيات استخدام السوشيال ميديا، والأمن السيبراني، والخوارزميات، وتحليل الداتا، والإدمان على عالم يلتهم الكثير من تفاصيل حياتنا، ويتحدث عن جانب آخر من البلوك، تقوم به الحكومات، كي تمنع عن شعوبها معلومة أو معرفة ما، وكذلك قد تقوم به تطبيقات السوشيال ميديا نفسها عبر التقييد أو الحظر. وفي سياق الحديث عن محاولة إعادة الدفء للعلاقات بين تركيا وعدد من دول الخليج، تمَّ إلغاء حظر عدد من المواقع الإعلامية من الطرفين!
العلاقة بين النظام والمعارضة هي علاقة "بلوك" حالياً! أما العلاقة بين قسد وداعش فهي أقرب لعلاقة حظر من خلال بلوكات مثقوبة!
أردتُ أن أشرح، في ورشة تدريبية مع أطفال، مصدر ثقافتهم الرئيس السوشيال ميديا، جوانب من تعقيدات الوضع السوري، فاستعملتُ معجمها، قلت لهم العلاقة بين النظام والمعارضة هي علاقة "بلوك" حالياً! أما العلاقة بين قسد وداعش فهي أقرب لعلاقة حظر من خلال بلوكات مثقوبة! وفي محاولة لشرح العلاقات بين المغرب والجزائر قلتُ "هي عدم متابعة" بعد سحب السفراء، لكنها تطورت لاحقاً لتصبح بلوكاً! يبقى الواقع السوري والعربي أكثر مرارة من هذه المصطلحات الناعمة!
قيل في الحظر، إنه حظران: حظر بسيط وحظر مركب! أما البسيط فأن تكون محظوراً وأنت عارف لماذا حظرت! أما المركب فأنت محظور، وغير عارف لماذا حظرت، وكيف استطاعت أصابع من حظرك أن تضغط زر الحظر!
وقيل: هناك حظر لمن نحبُّ، وحظر لمن نكره. وفي الدعاء المعاصر: اللهم احشرنا مع المحظورين حباً، وليس المحظورين كرهاً!
ومن طرائف الشعر الشعبي ما كتبه شاعر شعبي مغمور، محظور:
إنْ كنـتْ لـي بنـار الـصـد نــاوي// انظر لرجفةٍ مـن قلـب عليك، ملهـوف// يامن خليتنـي خلـف الحظـر مكتـوف // وصـار قلبـك مـن الـجفا خاوي// ياللي صار الحظر بيني وبينك دربٌ ماله نهاية// أبَشّركْ بآخر درب الحظر راح أصيرلك بداية!
من وجهة دينية، وهل يجوز البلوك شرعاً؟ وهل يعد المبلِّكُ مذنباً؟ وردَت فتوى مؤلمة على موقع إسلام ويب، وهي مؤسسة مرخصة في قطر، حول سؤال عن جواز الحظر: "الصداقة التي تحصل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مجرد متابعة للشخص على حسابه، وليست صداقة حقيقية، ولا يترتب عليها أحكام الوصل والهجر، وعليه، فإنه لا شيء عليك في حظر من قمت بحظرهم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يعد ذلك قطيعة أو هجراً!"
وفي الحياة الواقعية نقول: ما في "خناقة" إلا وراها صحبة! في الحياة الافتراضية يمكن أن نقول: ما في "تبليك" إلا وراءه مستقبل مشترك، ممتلئ بالمفاجآت!
صديق مهتم بالحظر، ولديه تجربة طويلة في السوشال ميديا والواتس آب، اقترح قائمة عقوبات للحظر بين الرجل والمرأة: - غزل خفيف دون سابق معرفة: إهمال أسبوع كامل//- إرسال قلب حب أحمر، دون معرفة واقعية: حظر لمدة أسبوع//- مناقشة بفكرة مضادة بعد منتصف الليل: إهمال 3 أيام // - إعلان حب دون مقدمات: حظر لمدة شهر //- مراسلة بعد منتصف الليل: حظر لمدة 24 ساعة// - إعلان حب وانسحاب مفاجئ: حظر دائم! إعجاب ببروفايل واتس آب: حظر أسبوع يكفي! – أما قصيدة شعر عمودي، من رجل إلى صبية: فعقوبتها حظر إلى الأبد!