على الرغم من تواتر الحديث - منذ أنْ واجه نظام الأسد مظاهرات السوريين السلمية بالعنف المفرط - عن سقوط نظام دمشق أخلاقياً وإنسانياً، وذلك لفظاعة ما ارتكبه بحق السوريين من جرائم، إلّا أن هذا السقوط (القيمي) المشار إليه لا يغيّر من الناحية الفعلية الواقع المأساوي الذي يعيشه السوريون في سائر أنحاء البلاد، وكذلك لا ينفي أن هذا النظام ما يزال هو الممثّل الفعلي والرسمي للدولة السورية في جميع المحافل العالمية والعربية، باعتباره الحكومة الشرعية التي تحكم البلاد، وفقاً لقوانين ومفاهيم الدول، بما في ذلك الدول التي ما تزال تتخذ موقفاً مناهضاً لنظام دمشق وتعدّه نظاماً قاتلاً يضطهد شعبه.
ولعل هذا المنظور المزدوج، الذي غالباً ما تنهزم فيه القيمة الأخلاقية أمام المصالح المادية، هو ما عزّز الشعور لدى كثير من الأطراف المحلية والدولية على حدّ سواء، بعدم جدوى السعي لتغيير نظام الحكم الراهن، بل الأجدى التصالح معه، لأن تبعات إزالته – وفقاً لتلك الأطراف ذاتها – هي أشد ضرراً على مصالحها من تبعات إعادة تأهيله واحتوائه.
واقع الحال يؤكّد أن هذه المواقف الداعية إلى مهادنة الأسد أو التصالح معه لم تكن كذلك حتى بداية عام 2015، لكن فيما بعد بدأت بالظهور المتواتر، في موازاة قدرة قوات النظام على الحسم العسكري بدعم مباشر من القوات الروسية، وكذلك قدرة قوات النظام على استعادة السيطرة على العديد من المدن والبلدات التي كانت بحوزة فصائل المعارضة العسكرية، أي أن إصرار الأسد على المضي في الحرب على السوريين وبشهوة مضاعفة للقتل والتنكيل والتهجير، وبالتالي تحقيق منجز ميداني يتمثل بالانتصار على شعبه، هو ما دفع بتلك الأطراف الأخرى لمكافأته، عبر مراجعة مواقفها التي انتهت بالانحياز إلى فكرة إعادة تأهيل الأسد. بل يمكن الذهاب إلى أن معظم المواقف الدولية الرافضة لسلوك الأسد كانت تضمر بالأصل موقفاً موازياً بعدم إزالته (موقف واشنطن مثال بارز بهذا الخصوص)، ولعل مثل هذه المواقف هي التي تدعو للقول: إن معظم الأطراف الدولية النافذة بالشأن السوري كانت، وما تزال، منهمكة بإدارة الأزمة في سوريا أكثر من انشغالها بإيجاد الحلول. ولكن السؤال الأكثر أهمية: هل استطاع الأسد استثمار ازدواجية المواقف الدولية وتأرجحها؟ بل هل استطاع الاستفادة من تراجع مواقف العديد من الدول التي سعت إلى إعادة تأهيله ودمجه في محيطه العربي والإقليمي؟
لقد اعتاش نظام الأسد – سياسياً وعسكرياً واقتصادياً – طوال ما مضى، على التلطّي خلف سردية الممانعة التي غالباً ما استثمرها كوسيلة لابتزاز أقرانه من العرب، فضلاً عن استثمارها كذريعة لاضطهاد شعبه.
مسعى عربي وآخر إقليمي لإنقاذ الأسد
يمكن الوقوف بإيجاز شديد عند معالم أبرز مسعيين اثنين لانتشال الأسد من مأزقه: الأول كان بمبادرة عربية تجسّدت بقيام دولة الإمارات في أواخر العام 2019 بإعادة افتتاح قنصليتها في دمشق، ثم تعزّزت تلك المبادرة بزيارة عبد الله بن زايد، وزير خارجية الإمارات، إلى دمشق في تشرين الثاني من العام 2021. وقد رفد الأردن مسعى الإمارات بمبادرة الملك عبد الله الثاني (خطوة مقابل خطوة)، إلى أن تكلّل هذا المسعى بالمبادرة السعودية التي أفضت إلى حضور بشار الأسد قمة جدّة (أيار 2023) ومن ثم حضور قمة (المنامة) في (أيار 2024). إلّا أن هذا الحراك السياسي العربي تجاه دمشق كان يراهن على استجابة الأسد لاستحقاقات ثلاث: التفاعل الجدّي مع عملية سياسية تفضي إلى إصلاحات داخلية من شأنها أن تؤدي إلى احتواء المعارضة ولا تشترط تغيير النظام، وقيام نظام دمشق بإغلاق منافذ الكبتاغون إلى الأردن ودول الخليج، والعمل من خلال خطوات ملموسة على الابتعاد عن إيران بالقدر الذي لا يجعل من سوريا منطلقاً لميليشيات إيران نحو دول عربية أخرى. ويمكن التأكيد على أن حصاد العرب من هذا المسعى التطبيعي كان صفرياً بالمطلق، بل إن عدم استجابة الأسد لأيٍّ من الاستحقاقات المذكورة قد دفع لجنة الاتصال العربية المنبثقة عن قمة جدّة إلى الاستسلام لخيبتها، ما دفع وزير الخارجية الأردني (أيمن الصفدي) إلى لقاء رأس النظام في دمشق (20 تشرين أول الماضي) للتعبير عن نفاد صبر الأردن حيال مماطلة الأسد في التفاعل الجدي مع مجمل القضايا والاستحقاقات التي وعدت حكومة الأسد بالتعاطي معها.
ويتجسّد المسعى الثاني بمسار إقليمي تدفع به روسيا، ويتجه نحو مصالحة وتطبيع للعلاقات بين تركيا ونظام الأسد، وذلك وفقاً لمسار أستانا الذي يتخذ من القرار الدولي (2254) مجرّد مظلة خارجية له، ولكنه من حيث المضمون يستند إلى تفاهمات بين الدول الراعية لهذا المسار (أنقرة وموسكو وطهران)، تأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول المذكورة بالدرجة الأولى. وقد لقي هذا المسعى تجاوباً إيجابياً من أنقرة التي أعلنت منذ شهر آب 2020 أنها ترحّب بهذه الخطوة، لظنها بأن هكذا مصالحة ربما تسهم في قطع الجسور التي يمكن أن تقام بين قسد وحكومة دمشق، وبالتالي منع حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) من إقامة كيان كردي على حدودها الجنوبية تحت مسميات أخرى، كالفيدرالية أو اللامركزية. إلّا أن عقدة المنشار أمام هذا المسعى تتمثل بمطلب الأسد بالانسحاب من كافة الأراضي التي تسيطر عليها تركيا عبر الفصائل العسكرية المعارضة التي توجّهها أنقرة، وسواءٌ أكان مطلب الأسد منبثقاً من دفعٍ إيراني أم لا، فإن النتيجة واحدة، أي إن الجسور بين أنقرة ودمشق ما تزال غير قابلة للنهوض. ولعل إشارة وزير خارجية تركيا (حقان فيدان) يوم السبت الماضي إلى رفض نظام دمشق مساعي التطبيع مع أنقرة تحمل كثيرا من ملامح النزق التركي الممزوج بالخيبة من استجابة الأسد.
الأدوار الوظيفية غالباً ما تكون رهينة التغيّرات، تنتهي بتبدّل المصالح واستحداث سياسات جديدة ترمي من دون أيّ أسف بالمعطوب الذي انتهت صلاحيته حين يصبح عبئاً عليها.
ما وراء الاستعصاء الأسدي
العطالة التي انتهت إليها مسارات التطبيع مع الأسد حتى الوقت الراهن لا تعكس عجز حلفائه وأعوانه عن احتوائه أو الأخذ بيده وانتشاله مما هو فيه، بقدر ما تعكس عطالته التي بلغت حدّ العقم التام، الذي جعل بنية النظام معطوبة لا قدرة لها على الاستجابة لأي مؤثّر، سواء أكان ذاتياً أم خارجياً. وما كان لهذا العطب الأسدي أن يقوى على البقاء ويتنكّر لجميع الأيدي التي امتدّت لانتشاله، سواء من أقرانه العرب أم غيرهم، لولا ركونه إلى قناعة إسرائيلية باستمرار دوره الوظيفي كحارسٍ شديد الأمانة لحدودها الشمالية. إلّا أن الأدوار الوظيفية غالباً ما تكون رهينة التغيّرات، تنتهي بتبدّل المصالح واستحداث سياسات جديدة ترمي من دون أيّ أسف بالمعطوب الذي انتهت صلاحيته حين يصبح عبئاً عليها.
لقد اعتاش نظام الأسد – سياسياً وعسكرياً واقتصادياً – طوال ما مضى، على التلطّي خلف سردية الممانعة التي غالباً ما استثمرها كوسيلة لابتزاز أقرانه من العرب، فضلاً عن استثمارها كذريعة لاضطهاد شعبه، في حين أن تلك (الممانعة) لم تكن أكثر من تخادم للمصالح بين إسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى. واليوم، إذ يتعرّض هذا التخادم الثنائي إلى ارتجاج كبير قد يطيح بجميع الدعائم الجانبية، فهل سيكون الأسد أحد تلك الدعائم الطائحة؟