تحاول أغلب الدول في الظروف الطبيعية تطوير منظومتها القانونية بشكل مستمر لاستقطاب وتشجيع المستثمرين وأصحاب الشركات واليد العاملة الماهرة للقدوم إلى البلاد، من خلال تسهيل إجراءات الدخول والإقامة والسماح بتملك واستئجار العقارات. بالمقابل تلجأ هذه الدول خلال الكوارث والحروب إلى تشريع قوانين من شأنها حماية الممتلكات التي يُجبر النازحون واللاجئون على تركها أثناء هروبهم، ووضع آليات وضمانات لاستعادتها لاحقاً.
أما في سوريا تحت حكم عائلة الأسد، فالوضع كما هو الحال في كل شيء مخالف للقيم والمعايير الدولية، فأجهزة السلطة، إلى جانب نهب (تعفيش) مقتنيات وأملاك النازحين واللاجئين المنقولة، تتفنن في طرق سلب عقاراتهم بذرائع مختلفة منها تثبيت الملكية أو المصادرة للمنفعة العامة أو بسبب التخلف عن أداء الخدمة الإلزامية أو دفع البدل النقدي، أو لأن أصحابها يعارضون أدوات القتل التي تنتهجها هذه الأجهزة. وتتم عملية السلب أحياناً بشكل جماعي لمنطقة بأكملها أو أكثر، كما جرى بالمرسوم رقم 66 لعام 2012 الذي انتزع أملاك المواطنين في عدة أحياء بدمشق مقابل أثمان بخسة جداً لا تتجاوز 10 دولارات للمتر المربع الواحد في حين أن قيمته السوقية تزيد عن 5000 دولار.
سلة قوانين مشبوهة
منذ عام 2011 أصدر النظام السوري حزمة من القوانين العقارية، يرى الكثير من الحقوقيين أنها جاءت ضمن سياسة ممنهجة للاستيلاء على أملاك كل من شارك في الثورة ضده، إضافة إلى النازحين واللاجئين خارج البلاد وخدمة لمشروع التغيير الديمغرافي الذي يقوده بالتعاون مع إيران والميليشيات الموالية لها في بعض المناطق.
فلم يمض بعد شهر واحد على اندلاع الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالإصلاح، وفي الوقت الذي كانت فيه أعين المجتمع الدولي كالمواطنين، تترقب إصدار قوانين من شأنها إحداث تغيير حقيقي يلامس تطلعاتهم، أصدر النظام في العاشر من نيسان/أبريل 2011 القانون رقم 11 المتضمن أحكام تملك الأجانب في سوريا، الذي أجاز إنشاء أو تعديل أو نقل أي حق عيني عقاري في الأراضي السورية لاسم أو لمنفعة شخص غير سوري طبيعياً كان أم اعتبارياً، جاعلاً تملك الأجانب القاعدة العامة ضمن شروط محددة، مثل صدور ترخيص من وزارة الداخلية، وأن يكون طالب الترخيص عائلة مقيمة بشكل نظامي، وألا تقل مساحة الشقة المشتراة عن 140 متراً مربعاً. كما أجاز القانون تملك البعثات الدبلوماسية والقنصلية والمنظمات الإقليمية والدولية والمراكز الثقافية مقرات لها أو لسكن رؤسائها أو أعضائها بشرط المعاملة بالمثل، غير أن المادة الأولى (ج) أجازت لمجلس الوزراء بناء على اقتراح وزيري الداخلية والخارجية منح الترخيص لأي شخص أجنبي استثناءً دون التقيد بالأحكام الواردة في القانون وهو ما يفتح المجال واسعاً أمام آلاف الطلبات الاستثنائية. كما أجاز القانون تأجير العقارات للأجانب لمدة خمس عشرة سنة.
وفي خطوة خطيرة أخرى، أقرَّ مجلس الشعب في 18 شباط/فبراير 2021 تعديل بعض مواد القانون المذكورة أعلاه، في وقت تشهد فيه تجارة العقارات في سوريا حركة نشطة غير طبيعية. إذ تشير المعلومات الواردة من دمشق وريفها وحلب ودير الزور عن قيام أشخاص ينتمون للمليشيات التابعة لإيران بشراء مئات الشقق، حيث يقوم هؤلاء بالمرور على المكاتب العقارية وسؤال أصحابها عن وجود شقق أو أراض معروضة للبيع. وأهم ما ورد في التعديلات الجديدة، أن تملك الأجانب لم يعد مقتصراً على الأُسر، بل أصبح بإمكان أي فرد أجنبي التملك سواء كان طالباً أو عنصراً في ميليشيا أو تاجراً، وأصبح بإمكان الأسرة الواحدة تملك عدة شقق بعدد أفرادها. وبات الطريق سالكاً أمام إيران لتملك عشرات المقرات على امتداد الأراضي السورية بحجة إقامة مراكز ثقافية، إلى جانب ذلك خفضت التعديلات المدة اللازمة للتصرف بالعقار المملوك من قبل الأجنبي إلى سنتين فقط بدلاً من خمس سنوات سابقاً.
لم يتوقف الأمر على فتح النظام الباب أمام الأجانب خاصة الإيرانيين والعراقيين والأفغانيين للتملك أو بالأحرى السطو على ممتلكات السوريين، بل أصدر عام 2012 القانون رقم 19 الخاص بمكافحة الإرهاب، وبموجب هذا القانون أصدرت محكمة الإرهاب أحكاماً بمصادرة عشرات الآلاف من الشقق والعقارات المملوكة لأشخاص اتُّهموا بدعم أو تمويل الإرهاب، وهي تهمة توجه لكل من انخرط في الثورة ضد النظام. كذلك المادة 97 المعدلة من قانون خدمة العلم التي تجيز إلقاء الحجز التنفيذي على الأموال المنقولة وغير المنقولة لمن تجاوز سن 42 عاماً ولم يؤد الخدمة الإلزامية، وتجميد أموال زوجته وأولاده كضمان لدفع هذا البدل.
أخطر ما صدر ضمن سياق منظومة القوانين التي تمهد للسطو على عقارات السوريين هو القانون رقم 10 لعام 2018، الذي من شأن تنفيذه حرمان الآلاف من المواطنين خاصة النازحين واللاجئين من أملاكهم
إلى جانب ذلك صدرت عدة قوانين تتعلق بالمصالح العقارية مثل القانون رقم 25 لعام 2011 الخاص بالتطوير العقاري، والمرسوم رقم 40 لعام 2012 الخاص بمخالفات البناء، والمرسوم رقم 66 لعام 2012 المتضمن معاقبة المناطق التي ثارت على النظام ومصادرة أموال ساكنيها مثل المزة بساتين والرازي والقدم والعسالي وداريا وكفرسوسة وغيرها بحجة تطوير هذه المناطق التي تضم مخالفات وسكناً عشوائياً. والمرسوم رقم 11 لعام 2016 الذي يبطل كل عمليات تسجيل حقوق الملكية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والقانون رقم 1 لعام 2018 القاضي بمصادرة أراضي المواطنين على ضفاف نبع الفيجة ونفقي جر المياه إلى دمشق وذلك على خلفية سيطرة فصائل المعارضة على النبع وقطع المياه عن دمشق رداً على الحصار الذي كانت تفرضه قوات النظام على مدينة الزبداني عام 2015. والمرسوم 15 لعام 2015 القاضي بالسماح بإنشاء شركات قابضة بهدف إدارة واستثمار أملاك الوحدات الإدارية، مثل شركة "دمشق الشام القابضة" التي تعتبر الممر الرئيس لمشاريع إعادة الإعمار التي يخطط النظام للقيام بها من خلال رجال الأعمال المقربين منه.
وتجدر الإشارة إلى أن أخطر ما صدر ضمن سياق منظومة القوانين التي تمهد للسطو على عقارات السوريين هو القانون رقم 10 لعام 2018، الذي من شأن تنفيذه حرمان الآلاف من المواطنين خاصة النازحين واللاجئين من أملاكهم لعدم قدرتهم على إثبات وقائع ملكيتهم ضمن الشروط والآجال التي حددها القانون. إضافة إلى القانون رقم 3 لعام 2018 الخاص بإزالة أنقاض الأبنية التي دمرتها براميل الأسد وصواريخه الفراغية.
بالمقابل يبدو أن سلطة الأمر الواقع المعروفة بــ “الإدارة الذاتية لشمالي وشرقي سوريا” تتقاسم مع النظام السيطرة على أملاك السوريين في المناطق التي تسيطر عليها، حيث أصدرت حزمة من القرارات وضعت بموجبها يدها على العقارات الأميرية التي تقدر بأكثر من 60% من نسبة العقارات في تلك المناطق، وعدم السماح بسماع أية دعاوى تتعلق بهذه العقارات من قبل المحاكم المحلية أو ما تعرف بــ "دواوين العدالة". كما أصدرت في العام 2020 قانون “حماية وإدارة أملاك الغائب” بذريعة حماية أملاك الأشخاص الذين غادروا الأراضي السورية لمدة تزيد عن عام، حيث أجاز القانون تأجير واستثمار أملاك هؤلاء دون موافقتهم على أن يعود ريع هذه الأملاك للإدارة الذاتية وليس لأصحابها.
ضمانات دولية
أثبت الواقع العملي في العديد من الدول أن مجرد النص على حماية حق الإنسان بالملكية في دستور الدولة وقوانينها الداخلية، لا يكفي خاصة خلال النزاعات المسلحة حيث تتغول السلطات الحكومية أو سلطات الأمر الواقع على الحقوق والحريات العامة لمعارضيها من خلال مصادرة أملاكهم أو سن تشريعات تحرمهم من التصرف بها، ما يجعل البحث عن ضمانات دولية ضرورة ملحة لحماية حقوق هؤلاء.
على المستوى الدولي هناك عدد من المعاهدات الدولية كرست حماية حق الإنسان في التملك، مثل إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي صدر غداة الثورة الفرنسية عام 1789 وعدَّ حق الملكية أحد الحقوق الطبيعية للإنسان التي لا تسقط بالتقادم. في حين أشارت المادة (17) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948، إلى أنه (لكل فرد الحق في التملك.... ولا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفاً). أما المبادئ التوجيهية بشأن التشريد الداخلي الصادرة عن الأمم المتحدة، فقد فرضت على السلطات المختصة في الدول واجب تهيئة ظروف العودة الطوعية للنازحين ومسؤولية استرداد هؤلاء لأموالهم وممتلكاتهم التي تركوها وراءهم أو انتزعت منهم وقت تشردهم.
تجارب عملية
من الناحية العملية، هناك بعض التجارب المشابهة لما حصل في سوريا تمت معالجتها باتفاقات دولية، مثل اتفاق دايتون للسلام الذي أُنهي بموجبه الصراع الدامي الذي دار في البوسنة والهرسك بين عامي 1992-1995. وبالرغم من أن الاتفاق لا يعتبر بمثابة معاهدة دولية وهو لا يلزم إلا أطرافه، إضافة إلى بعض المآخذ عليه، إلا أن واضعيه عالجوا بشكل مفصل في ملحق خاص به مشكلة الممتلكات التي فقدها أصحابها خلال فترة الأعمال العدائية، إذ نص على حق اللاجئين والمشردين بالعودة إلى موطنهم الأصلي، وأن تُعاد إليهم ممتلكاتهم التي حرموا منها وأن يعوضوا عن تلك التي لا يمكن إعادتها كأن تكون قد دمرت بالكامل. كما نص على ذلك دستور البوسنة والهرسك الذي أضاف بأن جميع الإجراءات والوثائق والالتزامات التي جرت تحت الإكراه خلال فترة النزاع باطلة.
بإمكان السوريين الالتجاء إلى بعض المعاهدات التي تشكل ضمانات دولية يمكن الاستناد إليها للمطالبة بحقوق الملكية المغتصبة من سلطات النظام
ولتنفيذ ذلك أنشأ اتفاق دايتون لجنة من تسعة أعضاء للنظر في القضايا الخاصة بإعادة ممتلكات اللاجئين على أن يتم اختيار رئيس اللجنة واثنين من أعضائها من قبل رئيس المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان للحفاظ على حيادها واستقلالها. نظرت اللجنة خلال فترة عملها (1996-2003) في أكثر من 230 ألف دعوى تتعلق بـــ 320 ألف عقار وبلغ عدد المدعين أو المطالبين بملكية عقارات وقع عليها انتهاك قانوني أكثر من 360 ألف شخص وأصدرت اللجنة 311757 قراراً ملزماً، وبلغ عدد المستفيدين من هذه الدعاوى نحو مليون شخص وهذا يعكس حجم الخروقات القانونية التي وقعت على العقارات خلال فترة ثلاث سنوات، وكان على المدعين الاختيار بين عدة حلول مناسبة لهم مثل العودة إلى منازلهم أو بيعها أو مبادلتها أو تأجيرها مع الاحتفاظ بحقهم في ملكيتها.
أخيراًـ، نعتقد أنه بإمكان السوريين الالتجاء إلى بعض المعاهدات التي تشكل ضمانات دولية يمكن الاستناد إليها للمطالبة بحقوق الملكية المغتصبة من سلطات النظام بموجب القانون رقم 10 وغيره من القوانين التي صدرت بعد عام 2011 لإبطال كافة التصرفات غير المشروعة التي وقعت على ممتلكاتهم. كما يمكن الاستفادة من تجربة اللجنة المنبثقة عن اتفاق دايتون لتسوية المطالبات بحقوق الملكية. ويتوجب على أعضاء لجنة التفاوض وكل الخبراء القانونيين العمل لإدراج هذه القضية بصيغة قانونية في أي اتفاق أو تسوية سياسية والضغط على الأمم المتحدة ومجلس الأمن لوضع هذه القضية على جدول أعماله وعدم تغييبها لأنها تتعلق بحقوق ملايين السوريين الذين تضرروا في أملاكهم خلال السنوات الماضية.