لم يتردّد معظم السوريين – ومنذ الأيام الأولى لانطلاق الثورة - في الإفصاح عن تطلّعهم إلى ضرورة وجود كيان سياسي أو مظلة سياسية جامعة تمثّل السوريين وتكون الإطار الناظم لمجمل حراكهم الثوري، وربما كان شعار (المجلس الوطني يمثلني) الذي تزامن مع تشكيل المجلس الوطني السوري في تشرين الأول من العام 2011، هو التعبير الحقيقي ليس عن اختيار السوريين وقناعتهم العميقة بالكيان المذكور بقدر ما هو تعبير عن حالة اليتم السياسي التي بدت إحدى سمات الحراك الثوري آنذاك. اليوم، ونحن نقترب من الذكرى الثانية عشرة لفجر الثورة السورية ما يزال هذا التطلّع قائماً، بل ربما بأشكال وطرائق أكثر إلحاحاً، وذلك في ظلّ استفحال حالة اليتم وغياب الدور السياسي الفاعل لمجمل التشكيلات السورية التي مُنحت صفة رسمية في تمثيل السوريين، فضلاً عن بروز أكثر من سلطة أمر واقع على الجغرافية السورية، وجميع هذه السلطات تكاد تشترك في أكثر من سمة، لعل أبرزها هي عدم صلاحيتها مجتمعةً أو منفردةً لأنْ تكون حاملاً لمشروع التغيير الوطني الذي نادى به معظم السوريين، ونتيجة لما سبق ذكره، نشأ في المشهد المقابل للكيانات الرسمية للمعارضة، حراك دؤوب يسعى لإنشاء بديل سياسي وطني علّه يستدرك حالة استفحال الخراب ويستطيع الإمساك من جديد بطرف من المبادرة الوطنية من جهة، ولعله – أيضاً – أن يكون بعيداً عن سطوة الوصاية الإقليمية التي أجهزت على شطر كبير من الإرادة السورية من جهة أخرى. إلّا أن معظم أشكال هذا الحراك البديل، وعلى الرغم من المشروعية ونبل المسعى، لم تُفضِ إلى نتيجة توازي المُبتغى المطلوب، بل يمكن التأكيد على أنها لم تستطع – على الأقل – مراكمة أي عمل يمكن البناء عليه مستقبلاً، وغالباً ما كانت النتيجة في نهاية كل مسعى هي العودة إلى الحالة الصفرية، ثم تبدأ المحاولات من جديد، دون مراجعات حقيقية للإخفاقات السابقة، بل ودون النظر والتبصّر بعمق في طبيعة المعوقات التي تحول دون الوصول إلى الهدف أو جزء منه، وهذا لا يعني غياب أحاديث مطولة عن ذرائع ومبررات، كالتي تشير إلى دور قوى الإسلام السياسي في إجهاض المشروع الوطني أو التي تعيد الفشل إلى الدور الكبير والحاسم للتدخل الإقليمي والدولي في القضية السورية، وكذلك ثمة من يشير إلى الدور التخريبي لسلطات الأمر الواقع، وربما وجد آخرون أن دواعي الإخفاق تجسّدت في غياب تيار معرفي مُؤسِّس لوعي ديمقراطي جديد، بل ثمة كثير من التبريرات يحاول معظمها التركيز على دور العوامل الخارجية والنأي عن الدواعي الذاتية للإخفاقات المتكررة، إلّا أن مجمل هذه المبررات والتي تهدف إلى تبرئة الذات في الغالب قبل وضع اليد على مكمن العلّة، لا يبدو أنها صالحة للإقناع دوماً، وذلك بموازاة تجاهل شبه تام لثلاث مسائل متلازمة:
معظم القوى أو الأجسام السياسية التي تنادت لهكذا مشروعات هي في الأصل تعاني من أزمات تنظيمية
1 – على الرغم من تواتر الدعوات وعلوّ الأصوات المنادية بضرورة اجتماع القوى السياسية السورية إلى مظلة ذات دعائم وطنية مُتفق عليها بين الأطراف المتعددة، إلّا أن طبيعة تلك الدعوات لا تختلف كثيراً عن أشكال الدعوات إلى الولائم والمسامرات الثقافية، دون أي وجود لتفاهمات معرفية وفكرية يمكن أن تكون رافعاً لمشروع سياسي وطني، وكذلك دون وجود رؤية جديدة لواقع القضية السورية في ضوء المستجدات الراهنة، وفي غياب ما سبق، لا يبرز في فضاء هكذا لقاءات سوى كلام مكرور وشعارات بلغ عمرها أكثر من عقد من الزمن، علماً أنه من نافل القول: إن الثورة هي فعل إبداعي متجدد على مستوى التفكير والعمل معاً. أضف إلى ذلك أن معظم القوى أو الأجسام السياسية التي تنادت لهكذا مشروعات هي في الأصل تعاني من أزمات تنظيمية وربما أهدرت المزيد من الوقت سعياً للحفاظ على كينوناتها فحسب، وربما وجدت في تلك الدعوات فرصةً للقفز أو الهروب إلى الأمام، وبالتالي هي لا تملك ما يمكن أن يكون إضافة نوعية إلى أي مشروع إن لم تكن بالفعل عبئاً على أي مشروع جديد.
2 – لعل أية دعوة لإنشاء جسم سياسي جامع لن تحظى بالمصداقية الكافية إن لم تمتلك القدرة على تحقيق مُنجز ما، وخاصة في ظل حالة مهيمنة من شيوع يأس شعبي عام من أي دور حزبي في سوريا، ولعل هذا ما يفسّر التفات الأنظار وتركيزها في السنوات الأخيرة الماضية على الكيانات التي تستطيع أن تحقق اختراقاً ولو محدوداً للحالة الراكدة، يمكن أن يكون المجلس السوري الأميركي مثلاً ساطعاً على ذلك، ذلك أن الجهود التي بذلها المجلس المذكور والتي كان لها أثر بارز في إحداث قانون قيصر أو موافقة الإدارة الأميركية على إدراج بند في الموازنة المالية الأميركية يطول نظام الأسد باعتباره أحد مصادر الكبتاغون، مثل هذه الأدوار الفاعلة وسواها يمكن أن تكون جاذبة للمصداقية أو الثقة الجماهيرية أكثر من الأحزاب والكيانات السياسية سواء التقليدية منها أو الجديدة، بل ربما كشفت تداعيات زلزال السادس من شباط أن منظمات الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) باتت موضع ثقة واحترام المواطنين السوريين إلى درجة جعلت البعض يدعو إلى وجوب تولّي الخوذ البيضاء أدواراً سياسية تتجاوز مهامها الإنسانية. مثل هذه الظواهر وسواها تؤكّد أن غزارة الشعارات واجترار التنظيرات والأفكار العقيمة لا تملك السبيل إلى أذهان الناس وقناعاتهم كما هي الحال فيما هو ملموس على أرض الواقع.
بعد مضي اثنتي عشرة سنة من عمر الثورة يرى البعض ألّا جدوى من أي عمل سياسي سوري
3 – ما هو لافتٌ في معظم اللقاءات الحزبية هو علوّ نبرات التوافق والإيجابية في المسائل المصيرية الكبرى وخصوصاً حين يصبح المجال مفعماً بنزعات الاستعراض الخطابي والتنميق اللفظي، ثم تأتي التفاصيل الصغيرة لتكشف خواء (الإنشاء الثوري) وعدم انبثاقه عن تماسك في الوعي يوازي سخونة الخطابات الرنّانة، كأنْ يتفق الجميع على وثائق تتحدث عن كيفية الانتقال السياسي وتؤكّد على ضرورة زوال نظام التوحش الأسدي كما تستعرض الشكل الجديد لنظام الحكم والإدارة وشطر كبير من مواد الدستور إلخ، ولكن فجأة نرى أن هذه القوى مجتمعة فشلت في الاتفاق على مضمون بيان يتحدث عن جانب إنساني من جوانب مأساة السوريين، ولعل هذا يُظهِرُ إلى حدّ بعيد حالة الانفصام بين السيول اللفظية والخطابية التي بات التنميط سمتها الأساسية، وبين آليات أو طرائق التفكير البائسة التي ما تزال هي الموجه الحقيقي لمعظم تفكير القوى الحزبية، فضلاً عن هيمنة النزعة الفردية في التفكير والسلوك وعدم القدرة على استيعاب مفهوم العمل الجماعي أو التشاركي.
بعد مضي اثنتي عشرة سنة من عمر الثورة يرى البعض ألّا جدوى من أي عمل سياسي سوري، وذلك بموازاة التداعيات الكارثية سواء أكان سببها دموية النظام ووحشيته أو دمار الزلازل التي عزّزت مأساة السوريين، إذ بات المخرج الوحيد – وفقاً لأصحاب هذا الرأي هو العمل على إعلان سوريا دولةً فاشلة، والمطالبة بوصاية دولية تتولى إخراج البلاد من واقعها المستعصي على الحل. ولكن ثمة من لا يزال يرى أن أي حلّ للقضية السورية سواء أكان مصدره دولياً من الخارج أم محلياً، فلا بدّ من وجود أدوات لهذا الحل، ولن تكون تلك الأدوات بعيدة عن الأطر السياسية سواء تجسّدت في أحزاب أو تيارات أو كيانات تنظيمية أخرى، فهل سيكون العبور إلى السنة الثالثة عشرة من عمر الثورة مصحوباً بوعيٍ أكثر عمقاً بمقاربة الواقع السياسي للمعارضة السورية؟