تكشف السياقات العملية للمبادرة التي أطلقتها الجامعة العربية للتطبيع مع نظام الأسد، عن مفارقات دالّة عديدة تصلح أن تكون سماتٍ عامةً للسياسات العربية الرسمية منذ عقود طويلة من الزمن، إلّا أن تجلياتها الأبرز يمكن قراءتها في مخرجات اللقاء الأول للجنة الاتصال العربية المنبثقة عن مؤتمر عمّان الوزاري، والتي استضافتها القاهرة في الخامس عشر من شهر آب الجاري. تجدر الإشارة إلى أن اللقاء المذكور جاء على إثر صخب إعلامي بدا يرتفع قبل أيام عمّا يمكن أن يُعدّ انكفاءً في خطوات التطبيع بين بعض الدول العربية، كالسعودية والأردن على وجه التحديد، وبين نظام الأسد، بسبب عدم التزام حاكم دمشق بما قد تعهّد به من قبل بخصوص مشروع (خطوة مقابل خطوة) وفقاً لمصادر إعلامية عديدة، إلّا أن البيان الختامي للقاء القاهرة قد يسهم في إزاحة اللبس عن أمرين أساسيين: يتمثل الأول بنفي وجود أي عهود يمكن أن يكون نظام الأسد قد تعهّد بتنفيذها أو قطعها على نفسه أمام الآخرين، وهذا ينسف نسفاً كليّا أي مزاعم عن أي أثر لوجود مبدأ (خطوة مقابل خطوة) كناظم لعودة الأسد إلى الجامعة العربية سوى من الناحية الإعلامية فحسب، ويتمثل الأمر الثاني بأن إعادة الأسد إلى الجامعة العربية هي - باختصار شديد – هدية تقدمها المملكة العربية السعودية إلى إيران، كخطوة حسن نيّة أو وثيقة حسن سلوك من شأنها أن تبعث الطمأنينة والارتياح لدى حكام طهران. ولعل تقصّي أهم ما انطوى عليه البيان الختامي يكاد يكون تنويعات مختلفة على ركائز أساسية، يمكن الوقوف عند بعضٍ منها:
الجميع يدرك أيضاً أن اختزال القضية السورية بلجنة دستورية هو تقزيم لمعاناة السوريين بل تنكّر فاضح لجذر القضية السورية التي تؤكد أن مشكلة السوريين لا يمكن حصرها بكتابة دستور جديد
أولاً – ثمة حرص كبير أبداه الحضور على ضرورة استمرار أعمال اللجنة الدستورية، والتي قبلت سلطنة عمان استضافتها، وذلك إيماناً من الحضور بأن اللجنة الدستورية تجسّد المدخل المناسب للحل السياسي، وتطلع المجتمعون إلى ضرورة عودة التئام أعمال اللجنة الدستورية قبل انتهاء العام 2023. فما لا يمكن نكرانه هو أن الجميع بات يدرك أن اللجنة الدستورية التي صدر قرار تشكيلها في سوتشي أواخر عام 2019، هي لم تنجز أي شيء مما أوكل إليها حتى الآن، علماً أن الجميع يدرك أيضاً أن اختزال القضية السورية بلجنة دستورية هو تقزيم لمعاناة السوريين بل تنكّر فاضح لجذر القضية السورية التي تؤكد أن مشكلة السوريين لا يمكن حصرها بكتابة دستور جديد، بل بتسلّط كامل لنظام إبادة دموي لا يمكن أن يقيم أي اعتبار لدستور أو قانون أو أي عرف آخر في سبيل استمرار تسلّطه وديمومة حكمه.
لكن يبدو ما دفع الحضور إلى التشديد على مسار لجنة الدستور واستعادتها لعافيتها هو قناعة الجميع بأن هذا الطرح هو الأقل إحراجاً لنظام الأسد، وليقين الجميع أيضاً أن نظام الأسد هو الأكثر قدرة بين الأطراف جميعها على استثمار مسار لجنة الدستور ومشاغلة المجتمع الدولي لسنوات وسنوات، فما تريده الأنظمة العربية من الأسد ليس حلّاً سياسياً منبثقاً من الأولويات التي تحددها القرارات الأممية، وإنما هو الطرح الذي يلبي رغبة نظام الأسد ويتيح له المزيد من المناورة والمشاغلة والاستثمار بآن واحد.
ثانياً – أكّد الحضور على ضرورة خروج جميع القوات الأجنبية غير المشروعة من الأراضي السورية وفقاً لأحكام القانون الدولي. فالقوات التي يمكن وصف وجودها بغير المشروع هي القوات التركية والأميركية، أما قوات إيران وميليشياتها إضافة إلى القوات الروسية فوجودها مشروع، إذ إن وجودها على الأرض السورية إنما كان بطلب من نظام الأسد، صاحب السيادة والمشروعية، هذا هو فحوى ما تطرحه لجنة الاتصال العربية، واستناداً إليه فإن جميع أعمال القتل والتنكيل التي مارستها إيران ومشتقاتها في سوريا، وكذلك جميع أشكال الإبادة التي مارسها الطيران الروسي، فضلاً عما قام به النظام من جرائم، هي جميعها تكتسي كامل المشروعية وفقاً للجنة الاتصال، لأن من قام بها يجسد وجودا مشروعاً على الأرض السورية، ولعل السؤال الأكثر وجاهة هو إذا كانت مجموعة دول التطبيع تقرّ بمشروعية الوجود الإيراني في سوريا فلماذا العويل طيلة السنوات السابقة والشكوى المتواترة والخوف الشديد من تعاظم النفوذ الإيراني في سوريا؟ ألم تدّع أكثر من دولة عربية أن المعيار الناظم لعلاقتها بنظام الأسد (قرباً أو بعداً) هو نفوذ إيران في سوريا؟
ثالثاً – أكدت لجنة الاتصال على دعم حكومة النظام في الحفاظ على السيادة السورية وأمنها، وإنهاء وجود الجماعات المسلحة. ثم يطالب الحضور كذلك بتكثيف العمل مع المجتمع الدولي والأمم المتحدة لتسريع مشاريع التعافي المبكر وتوسيع الأنشطة الإنسانية. ولعله من العسير على المرء أن يعرف ما هي حدود ومعالم السيادة التي يعنيها أقران نظام دمشق، علماً أن سطوة الإيراني والروسي على جميع مقدرات البلاد لم تعد تتيح الكثير من الكلام على السيادة. ثم يأتي دور الحوافز التي ينبغي أن تُعطى للأسد كمكافأة على استمرار مليوني نازح في الخيام وأضعافهم في خارج سوريا.
يمكن الذهاب إلى أن ما جاء في البيان الختامي للقاء القاهرة هو ترجمة فعلية وأكثر وضوحاً لبيان عمان الوزاري الذي جاء آنذاك مشفوعاً بنبرة تفيض استجداءً ولا تعرض للمسائل الجوهرية للسوريين إلا على استحياء وباستجداء واضح
رابعاً – يأتي تأكيد المشاركين في اللقاء على ضرورة (تكثيف الجهود المتعلقة بتبادل المخطوفين والمعتقلين والبحث عن المفقودين بالتعاون مع المنظمات الإنسانية)، وهنا تبلغ الإهانة العربية للسوريين ذروتها، إذ تصبح قضية مئات الآلاف من المعتقلين داخل سجون الأسد، فقط مسألة خطف متبادل بين النظام وخصومه، وهي خطوة كان لها إرهاصات من ذي قبل تهدف إلى خلط الأوراق، ومساواة النظام بسواه فيما يخص حجم الجرائم المرتكبة، بهدف تبرئة نظام الأسد وليصبح مجرد فاعل كفاعلين سواه على الأرض السورية ساهموا بارتكاب جرائم بحق المواطنين.
يمكن الذهاب إلى أن ما جاء في البيان الختامي للقاء القاهرة هو ترجمة فعلية وأكثر وضوحاً لبيان عمان الوزاري الذي جاء آنذاك مشفوعاً بنبرة تفيض استجداءً ولا تعرض للمسائل الجوهرية للسوريين إلا على استحياء وباستجداء واضح، ولعل مبلغ الإساءة للقضية السورية في مسعى الجامعة العربية لا يكمن فقط في محاباة نظام الأسد والمساهمة بالتستر على إجرامه والسعي إلى إعادة تسويقه فحسب، بل بالاعتداء الكبير والآثم على قضية السوريين متمثلةً بتضحياتهم العظيمة وكذلك متمثلةً بمطالبهم المشروعة بالتحرر من الظلم والتطلع نحو الحرية.