رغم كل الجهود التي بذلها نظام الأسد لمحو ملفه الإجرامي وإظهار نفسه كنظام شرعي وطني، إلا أن قضية اللاجئين لا تزال الخرق الأكبر والبقعة الأكثر سواداً في ثوب النظام المرقع وغير القابل للترميم، البقعة التي لا يمكن غسلها أو إزالتها حتى لو استطاع النظام محو سجله الملطخ بالدم والرصاص والبراميل والكيماوي والقمع والإرهاب المنظم.
قضية اللاجئين هي العين التي لا تزال تقاوم مخرز التزوير والتزييف، وشاهد الإثبات الذي لا يستطيع النظام رشوته أو تهديده أو اغتياله أو اعتقاله، فهي تفضح ادعاءاته وتعري دعايته الرخيصة التي يروج من خلالها لفكرة هروب السوريين من بلدهم بسبب الإرهاب أو الحرب، تلك الرواية التي يلوكها النظام منذ سنوات تواجه بحقيقة لا يمكن نكرانها، وتتمثل في بقاء اللاجئين خارج سوريا رغم انتهاء الحرب والإرهاب معاً، الأمر الذي يؤكده النظام نفسه بالحديث عن انتصاره ودحره للإرهاب، فلماذا يبقى اللاجئون إذا بعيداً عن بلدهم، ويفضلون العيش في المخيمات شديدة البؤس وفي واقع أكثر صعوبة من واقع الحرب ذاته، وأكثر تهديداً لحياتهم ووجودهم من الإرهاب ومن كل ما يمكن أن يتعرضوا له من مخاطر ومصاعب فيما لو كانوا في بلدهم؟
سبب التخوف الأساسي من العودة لا يزال السبب ذاته الذي دفع باللاجئين للهرب من سوريا، وهو بالتحديد الخوف من الاعتقال
الذريعة الجديدة المثيرة للسخرية والتي يستخدمها النظام اليوم ليبرر تردد اللاجئين في العودة، تتمثل في الوضع الاقتصادي والخدمي المتردي، حيث يرجع أحد أسباب رفضهم العودة، إلى تخوفهم من قلة فرص العمل، وقلة الخدمات وتهتّك البنية التحتية، وكأن ساكني الخيام يتمتعون بالرفاهية الكافية لرفض العودة إلى بلد يفتقر فقط للخدمات وقلة فرص العمل، وكأنهم حريصون على عدم التفريط بالمزايا الخدمية والاقتصادية التي يحصلون عليها في مخيماتهم.
في الواقع، فإن سبب التخوف الأساسي من العودة لا يزال السبب ذاته الذي دفع باللاجئين للهرب من سوريا، وهو بالتحديد الخوف من الاعتقال.
حينما ابتدأت الثورة، كان السوريون جاهزين لمواجهة الموت، سواء من خلال الشعارات التي رفعوها، أو من خلال المواجهة العملية التي أثبتت أن تلك الشعارات لم تكن مجرد كلام، بدليل عشرات الآلاف ممن قتلهم النظام في الأشهر الأولى للثورة ولم يتراجع السوريون عن مطالبتهم بالحرية والخلاص من نظام القتل والإجرام، كان كل متظاهر يعرف تماماً أنه مشروع شهيد بمجرد مشاركته في المظاهرة، وكان المتظاهرون يشيعون شهداءهم ويتابعون مظاهراتهم بزخم أكبر..
الخوف من الاعتقال كان ولا يزال الدافع الوحيد لهرب السوريين من بلدهم، فصورة المعتقلات والسجون، وصورة السجانين ماثلة في أذهان السوريين جميعاً سواء ممن ذاقوا مرارة الاعتقال أو ممن سمعوا عنه وعن أشكال المعاملة وطرق التعذيب والانتقام والتغييب داخل السجون، باختصار كانت معتقلات النظام وما تزال أقسى من الموت بكثير، ومعظم اللاجئين السوريين هربوا لتجنب الوقوع في سجون الأسد وبين أيدي سجانيه الذين تم إعطاؤهم الصلاحيات الكاملة للتفنن بطرق التعذيب وابتكار أساليب أقسى بكثير من الموت نفسه.
هرب السوريون لأنهم يدركون أن الوصول إلى تلك المعتقلات لا يحتاج إلى أسباب حقيقية، فالجنود على الحواجز، وعناصر الأمن وفروع المخابرات، كلهم مطلقو الأيدي ويستطيعون اعتقال أي سوري حتى أولئك الذين بقوا على الحياد ولم يشاركوا في أي نشاط ثوري.
هرب السوريون خوفاً من تقرير كيدي لمخبر سري، أو من مزاج سيئ لضابط على الحاجز، يودي بهم وبأولادهم إلى تلك المعتقلات المخيفة، سواء شاركوا في المظاهرات أو لمجرد الاشتباه بهم، أو بلا سبب، وما أكثر المعتقلين الذين زجوا بالسجون بلا سبب، بعضهم تم اعتقاله على نية التظاهر، وكثيرون تم اعتقالهم حسب مكان الميلاد، وكثيراً ما تم اعتقال موالين بالخطأ.
هرب السوريون وهم على أمل العودة إلى بلدهم خالياً من تحكم أقلام المخبرين وبساطير الجيش وأمزجة المخابرات، وسادية الجلادين الذين يستمتعون بعذاب الآخرين، ومن السفلة المتكسبين على حساب دم الآخرين من الشبيحة، هربوا على أمل سقوط النظام والعودة إلى سوريا خالية من العنف والإجرام الرسمي، لم يهرب سوري واحد بهدف الاستقرار في الملاجئ أو حتى في أوروبا، ففي كليهما عذابات وقهر وشعور مرير بالغربة..
ملايين من السوريين خرجوا من بلدهم قبل وصول داعش والتيارات الإسلامية المتشددة وقبل أن يحول النظام الثورة إلى حرب من طرف واحد، وكل ذلك يفسد رواية النظام حول أسباب هروب السوريين، وما استمرار السوريين في ملاجئهم رغم كل الظروف القاسية وبعد انتهاء الحرب والإرهاب، سوى تأكيد ودليل لا يقبل الشك على أن عدوهم هو النظام وأن عودتهم مشروطة بسقوطه، وأن السبب الذي أخرجهم من بلدهم لا يزال قائماً، ولأنهم لا يزالون يتعرضون للتهديد ذاته الذي هربوا منه منذ أكثر من عشر سنوات إذا ما فكروا بالعودة..
وإذا كنا نتحدث عن لاجئي المخيمات الذين لا يزالون يفضلون أوضاعهم البائسة عن العودة إلى سوريا، فثمة ملايين من السوريين الذين ينتشرون في أصقاع الأرض ممن حصلوا على اللجوء في دول أوروبية أو أولئك المقيمون في تركيا وفي البلاد العربية، ورغم الظروف المعيشية الجيدة لمعظم هؤلاء اللاجئين، إلا أن حلم العودة إلى سوريا يراود الجميع، ولكن العائق نفسه هو ما يمنعهم، "الاعتقال"، بالإضافة إلى المواقف الصارمة لكثيرين الذين يمتنعون عن العودة لعدم إعطاء شرعية للنظام حتى وإن ضمنوا سلامتهم الشخصية، رغم غياب هذه الضمانة بالمطلق، فالغدر لا يزال السمة الأساسية للنظام ورغبة الانتقام لا تزال الرغبة الطاغية لديه بعد نصره المزعوم.
يمكن لكل من يتأمل سلوك معظم الموالين أن يكتشف أن اللغة المستخدمة في التعبير عن الولاء هي اللغة التي ترضي النظام وليست لغة الناس
اللافت هنا أن الخوف من الاعتقال هو السبب الرئيسي أيضاً الذي جعل كثيرا من السوريين يتظاهرون بأنهم مؤيدون لتجنب بطش النظام، ومع ذلك فإن مشاعر الذعر لا تفارقهم، وعليهم دائماً أن يزيدوا جرعات الولاء من خلال مديح سيد الوطن والجيش العربي السوري وشتم خصوم النظام من البلاد والرؤساء والشخصيات العامة المعروفة والتي يناصبها النظام العداء، ويمكن لكل من يتأمل سلوك معظم الموالين أن يكتشف أن اللغة المستخدمة في التعبير عن الولاء هي اللغة التي ترضي النظام وليست لغة الناس، هي اللغة المقررة في مناهج الولاء والتي تفوح منها رائحة الخوف والذعر والرغبة في درء خطر الاشتباه، فالاعتقال.
لو أن حرباً خارجية فرضت على سوريا، لما هرب السوريون بل لانبروا للدفاع عن وطنهم، حصل ذلك كثيراً في تاريخ سوريا، ولكن هروب الملايين كان بسبب العدو الداخلي المسلح بمخبريه وجواسيسه وعملائه، والمسلح بمعتقلاته وسجونه التي كانت سبباً رئيسياً لذلك الهروب.
لقد استعاد النظام شرعيته في الداخل بقوة السلاح والتهديد والترهيب وبقوة الذعر الذي يجسده المعتقل، ومن خلال تخلي المجتمع الدولي عن السوريين وتركهم لمواجهة قدرهم، وها هو اليوم يبحث عن شرعيته خارج سوريا من خلال المتاجرة باللاجئين وقضيتهم، واستغلال العنصرية التي تمارس عليهم وخصوصاً في لبنان، ليحاول إيهام المجتمع الدولي بأنه مهتم بهم ومتسامح معهم، ولكن كل الظروف الاقتصادية والإنسانية القاسية وكل العنصرية التي تمارس ضدهم لا تساوي يوماً في سجون الأسد، وما بضعة الآلاف التي يحاول الأسد استعادتهم من ضمن ملايين اللاجئين سوى وسيلة لمغازلة المجتمع الدولي وورقة مساومة لدعم تعويمه والتطبيع معه.
لو كان الأسد حريصاً على اللاجئين وتهمه عودتهم لكانت الخطوة السابقة لاستعادة اللاجئين هي الإفراج عن المعتقلين في سجونه، ولكن يبدو أن ثمة مساحة في سجون الأسد تتسع لنزلاء جدد بعد أن قام بتصفية أعداد كبيرة ممن كانوا فيها.
حتى وإن لم يتم اعتقال العائدين، فإن مجرد عودتهم إلى سوريا هي عودة إلى السجن الكبير المفتوح الذي يعتقل فيه الأسد من هم خارج السجون الحقيقية.