الطبقة الوسطى أو "البرجوازية الصغيرة" هي الوعاء الاجتماعي الذي تولد منه كل قوى التغيير والإبداع في الفن والأدب والفكر والسياسة، هذه الطبقة الواقعة بين قوى الإنتاج "العمال والفلاحون" وبين أصحاب وسائل وأدوات الإنتاج من فئات رأسمالية صناعية أو زراعية أو خدمية أو حكومية، هي الخزّان الحقيقي للأحزاب والتيارات السياسية، وهي الحامل الرئيسي للفكر السياسي وللإبداع في شتى مناحيه. وتضمّ هذه الطبقة طيفاً واسعاً من الفعاليات المختلفة، مثل أصحاب المهن العلمية، وأصحاب المهن اليدوية، والمعلمين، والتجار، والصناعيين الصغار ..إلخ .
وقد لعبت هذه الطبقة دوراً مهماً في مرحلة ما بعد الاستقلال، وتحديداً في مجال الشأن الوطني العام، ومجال منظمات المجتمع المدني، ولكنها خسرت هذا الدور مع صعود حزب البعث إلى السلطة بانقلاب عام 1963 إذ اتجهت سلطة البعث إلى اتباع كل المنظمات النقابية بسلطتها، وتعزّزت السيطرة بعد انقلاب حافظ الأسد عام 1970.
سيطرة السلطة على الدولة والتماهي فيها ضيّق الهامش الحقيقي لدور الطبقة الوسطى في إنتاج فكرها ووعيها الاجتماعي والسياسي، وظهرت هذه السيطرة السلطوية عام 1980 إثر إضرابات النقابات المهنية "أطباء – محامون – مهندسون ..."، إذ قام نظام حافظ الأسد بحلّ النقابات وأعاد تشكيلها بعد ربط مكاتبها التنفيذية بمكتب المنظمات في "القيادة القطرية لحزب البعث".
ولكنها خسرت هذا الدور مع صعود حزب البعث إلى السلطة بانقلاب عام 1963 إذ اتجهت سلطة البعث إلى اتباع كل المنظمات النقابية بسلطتها
التدخل السياسي في شأن تنظيمات الطبقة الوسطى الاجتماعية من قبل نظام الحكم في سورية منع هذه التنظيمات من القيام بأي أنشطة تتعارض معه ومع مصالحه، فالسيطرة السياسية والأمنية صارت واضحةً وعلنيةً، وبالتالي تمَّ حصر أي نشاط فكري وإبداعي وفني بموافقة ورقابة من هذه المنظمات المسيطر عليها. الأمر لا يتعلق فقط بنشاط هذه الطبقة الاجتماعي، بل بوضعها المعاشي والاقتصادي، فهيمنة النظام على عمل هذه الفئات والتدخل فيه هدّد وجود هذه الطبقة فعلياً، مُنذراً إياها بالهبوط اقتصادياً ومعاشياً على مستوى الطبقات الشعبية.
هذا التدخل السياسي والهيمنة السلطوية على منظمات الطبقة الوسطى النقابية والمدنية شلّ دورها الفكري والسياسي والثقافي المولّد للإبداع والتغيير، فلم يعد الكاتب أو الفنان عموماً يستطيع القيام بأي نشاطٍ اجتماعي أو إبداعي خارج الأطر التنظيمية المرتبطة بجهاز الدولة، كذلك كان هناك منع لأي نشاط سياسي يتمّ خارج المنظومة السياسية للنظام الحاكم، لذا تم منع تشكيل أحزاب حقيقية أو تيارات سياسية من خلال فئات هذه الطبقة التي تعبّر عن حاجات المجتمع السياسية، وعن تطوره الاقتصادي والاجتماعي.
هذه الحالة وضعت الفعل السياسي والإبداعي للطبقة الوسطى خارج دوره التاريخي، وأعطته وظيفةً ملحقةً بجهاز نظام الحكم، وكانت مهمة الوظيفة هي التبرير والتمجيد وتهميش قضايا الهم الوطني والاجتماعي والاقتصادي.
قانون الطوارئ هو الذراع القمعية التي سلطها نظام الحكم لقمع أي نشاط خارج منظومته السلطوية
وفق هذه المعطيات الملموسة يمكن فهم تدهور وضع الفن بكل أبوابه، المسرحي والدرامي والسينمائي وفنون الآداب المختلفة، إضافة إلى الفن التشكيلي.
إنّ غياب حرية التفكير والعمل والاجتماع سببه الرئيس تضافر عاملين رئيسين هما العمل بقانون الطوارئ وبالمادة الثامنة من الدستور التي تمنح حزب البعث سلطة قيادة المجتمع والدولة.
قانون الطوارئ هو الذراع القمعية التي سلطها نظام الحكم لقمع أي نشاط خارج منظومته السلطوية، ولذلك صار العمل السياسي خارج منظومة السلطة السياسية "الجبهة الوطنية التقدمية" هو عمل ينتهك القانون، ويذهب بأصحاب النشاط الفكري والسياسي إلى المعتقلات والسجون، بموجب قانون الطوارئ البغيض.
السيطرة المطلقة على نظام الحكم والفعاليات الاجتماعية أدّت إلى تدني مستويات الفعل الإبداعي في مجالات الفكر والفنون، وإلى غياب الحراك والنشاط السياسي الطبيعي. ولذلك حين تفجّرت الثورة السورية في ربيع عام 2011، كانت النقابات بشتى تمثيلاتها تقف ضدّ الثورة ومطالب التغيير الديمقراطي رغم أن هذه المهمة هي جزء رئيس من دورها التاريخي باعتبارها تمثيلات لفئات أكثر قدرةً على إنتاج مفاهيم التغيير والحرية. لقد لعبت هذه المنظمات دوراً سيئاً في قمع التظاهرات وفي دعم سلطة الاستبداد.
حين تفجّرت الثورة السورية في ربيع عام 2011، كانت النقابات بشتى تمثيلاتها تقف ضدّ الثورة ومطالب التغيير الديمقراطي
إنّ غياب دور الإنتلجنسيا السورية عن الثورة هو غياب ناتج عن عجزها البنيوي، هذا العجز تشكّل لديها عبر مراحل متعددة من سيطرة نظام الحكم. هذا العجز لم يكن من الممكن تجاوزه بين ليلةٍ وضحاها بسبب غياب الوعي الجمعي لهذه الفئة حول ضرورة التغيير. فقبضة السلطة على النقابات والمنظمات المهنية والفكرية شكّلت هاجس رعب وخوف لدى الإنتلجنسيا، ولم يكن بالإمكان توظيف قدرات هذه الفئة المثقفة والمبدعة، لإنها فئة مسكونة بالخوف، وربط أغلبها مصالحه ومستقبله بمستقبل النظام.
الثورة لعبت دوراً هاماً في كسر حاجز الرعب والخوف من النظام الحاكم، ومن أجهزة قمعه الفظيعة، ولكن لم تستطع الثورة استقطاب الكم الأكبر من المثقفين الذين تمّ تحويلهم إلى جهاز وظيفي تبريري لسلطة تمتهن القهر والقمع وتتلطى خلف قضايا وطنية وقومية هي تعمل ضدها. لذا لا يمكن إطلاق صفة الخيانة على الإنتلجنسيا السورية التي تمّ تغييبها التاريخي عن دورها منذ سنوات طويلة. فأنت لا يمكن أن تطلب من مشلول ساقين أن يمشي وأن يركض، وهذا حال الإنتلجنسيا السورية.
المجتمع السوري بعد زوال حالة الصراع السياسي المدمرة سيحتاج وقتاً طويلاً لإعادة بناء أطره الاجتماعية الحرّة التي تدافع عن مصالح فئاته على قاعدة دستورية تعترف بحرية تشكيل النقابات ومنظمات المجتمع المدني المختلفة، دون أي تدخل من السلطات الحاكمة والتي ينبغي أن تحكم البلاد بموجب عملية ديمقراطية شفّافة يقرها دستور البلاد الجديد. إذا لا فعالية للإنتلجنسيا في ظل أنظمة الاستبداد الشامل، بل فعلها يولد وينمو ويؤثر حين تتوفر له مناخات الحرية.