اتفق الرئيس الأميركي، جو بايدن، ورئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، في لقاء القمة الذي جمعهما الأسبوع الماضي في البيت الأبيض على إنهاء المهمات القتالية للقوات الأميركية في العراق البالغ عددها 2500 جندي في نهاية عام 2021، على أن يتحول دورها إلى التدريب والدعم وتقديم المشورة للجيش العراقي وتبادل المعلومات الاستخبارية. وأصدر الجانبان، الأميركي والعراقي، بيانًا حول "الحوار الاستراتيجي" المشترك بينهما والذي عقد في مقر وزارة الخارجية الأميركية، برئاسة وزيري خارجية البلدين، تعهدت بموجبه إدارة الرئيس بايدن بمواصلة دعم العراق للحفاظ على أمنه ووحدة أراضيه.
أولًا: الإطار العام للتفاهمات الأميركية - العراقية
بالرغم من أن التفاهمات التي توصلت إليها القمة الأميركية - العراقية تمحورت أساسًا حول إعادة تعريف دور القوات الأميركية الموجودة على الأراضي العراقية، فإنها شملت أيضًا جوانب تتعلق بالاستقرار الإقليمي والتعاون في قطاعات الطاقة والصحة والاقتصاد والبيئة والتعليم وحقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية.
1. القضايا العسكرية والأمنية
اتفق الطرفان على أن تقدم الولايات المتحدة الأميركية التدريب والمشورة للقوات المسلحة العراقية، وأن تتبادل معها المعلومات الاستخبارية التي "تكفل أمن العراق". وبحسب البيان الصادر عن "الحوار الاستراتيجي" بين البلدين، فقد أكدت الولايات المتحدة "احترامها لسيادة العراق وقوانينه وتعهدت بمواصلة توفير الموارد التي يحتاجها العراق للحفاظ على وحدة أراضيه". والتزمت الحكومة العراقية "حماية أفراد التحالف الذين يقدمون المشورة لقوات الأمن العراقية"؛ باعتبار أن "جميع قوات التحالف موجودة في العراق بناء على دعوة الحكومة العراقية". واتفق الطرفان أيضًا على "أن القواعد التي تستضيف جنود الولايات المتحدة وأفراد التحالف الآخرين هي قواعد عراقية وتعمل وفقًا للقوانين العراقية"؛ ومن ثم، فهي ليست قواعد أميركية أو قواعد للتحالف، وبأن وجود "موظفين دوليين في العراق هو فقط لدعم حكومة العراق في قتال داعش". ومع أن الولايات المتحدة تؤكد أن قواتها لن تشارك في مهمات قتالية مع نهاية عام 2021، فإنها شددت على أن تعاونها مع العراق في مجال مكافحة الإرهاب سوف يستمر حتى مع الانتقال إلى هذه المرحلة الجديدة من العلاقة. ويؤكد العراق أن قواته الأمنية والعسكرية أصبحت تملك القدرة والكفاءة للتصدي لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، ولكنها تبقى في حاجة إلى الدعم والمشورة، خصوصًا في ما يتعلق بالمعلومات الاستخبارية وصيانة الأسلحة والتدريب عليها[4]. وبحسب مسؤولين في إدارة بايدن، فإن التفاهمات مع العراق لا تشمل "مهمة مكافحة الإرهاب في سوريا التي سوف تستمر في الوقت الحالي".
لقد مُني داعش بهزيمة عام 2017 وفقد الأراضي التي كان يسيطر عليها في العراق منذ عام 2014، ولكنه ما زال قادرًا على شن هجمات متفرقة كبيرة. وهناك مخاوف من أن يؤدي انسحاب أميركي مبكر إلى عودة التنظيم، كما حصل حينما انسحبت إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، من العراق عام 2011. لهذا تحرص واشنطن على التأكيد أن التفاهمات الجديدة لا تعني نهاية "الشراكة" بين البلدين، ولا حتى انسحابًا من العراق، بقدر ما تعتبر "تحولًا في المهمة". وترفض واشنطن تقديم تفاصيل حول عدد القوات التي ستبقى في العراق مع نهاية العام. ويدفع هذا إلى الاعتقاد أن الانسحاب سيتم في الغالب على الورق، من خلال إعادة تسمية الدور الذي ستضطلع به القوات الأميركية الموجودة على الأرض، وتكليفها بأدوار استشارية وتدريبية بدلًا من الأدوار القتالية. والواقع أن القوات الأميركية توقفت عن القيام بمهمات قتالية في العراق منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، أي خلال إدارة دونالد ترامب، التي خفضت حينذاك عدد القوات الأميركية من 5000 إلى 2500 جندي. وتؤكد القيادة العسكرية الأميركية أن قواتها لم تعد ترافق، منذ أشهر، القوات العراقية في العمليات البرية، وأن مساعدتها تقتصر على جمع المعلومات الاستخبارية والمراقبة ونشر التقنيات العسكرية المتقدمة.
2. مجالات التعاون الأخرى
إضافة إلى إعادة تعريف دور القوات الأميركية في العراق، ناقش الطرفان أوجه التعاون في مجالات الطاقة والبيئة والصحة والاقتصاد والحريات وحقوق الإنسان والتعليم والمساعدات الإنسانية. وكانت إدارة بايدن أعلنت أنها بصدد تزويد العراق، ضمن آلية COVAX العالمية، بنصف مليون جرعة من لقاح فايزر - بيونتيك للتصدي لجائحة كورونا، من المفترض أن تصل خلال أسبوعين. كما ستقدم الولايات المتحدة 5.2 ملايين دولار للمساعدة في تمويل بعثة الأمم المتحدة لمراقبة الانتخابات التشريعية العراقية المقرر إجراؤها في تشرين الأول/ أكتوبر 2021. وأعلنت إدارة بايدن أنها ستقدم أيضًا ما قيمته 155 مليون دولار من المساعدات الإنسانية الإضافية للعراق، تخصص للنازحين والمناطق التي تستضيفهم، لتوفير المأوى والرعاية الصحية والغذاء وخدمات المياه والصرف الصحي. وفي سياق "تعزيز الإصلاح الاقتصادي وتعزيز التكامل الإقليمي"، أعربت واشنطن عن دعمها لجهود العراق، "لا سيما من خلال مشاريع الطاقة مع الأردن وهيئة الربط الكهربائي لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية".
ثانيًا: دوافع الاتفاق على تغيير مهمات الوجود الأميركي في العراق
جاء إعلان بايدن عن قراره تغيير طبيعة الوجود العسكري الأميركي في العراق مع قرب استكمال القوات الأميركية انسحابها من أفغانستان، وهو القرار الذي اتخذه الرئيس في نيسان/ أبريل 2021، منهيًا عشرين عامًا من التورط العسكري هناك. ويهدف إلى إنهاء عقدين من الحروب الأميركية ضد "الإرهاب" والتي يراها بلا طائل، وتستنزف القوة والإمكانات الأميركية، وتشتت تركيزها على التحديات الأكثر أهمية. ولا تخفي إدارة بايدن أن تغيير المقاربات الأميركية في أفغانستان والعراق مرتبط بالدرجة الأولى بسعيها للتفرغ لاحتواء الصين الصاعدة، اقتصاديًا وعسكريًا. ويرى نائب رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، الجنرال جون هيتين، أن الانسحاب من العراق ضروري لضمان استعداد القوات الأميركية للحرب مع الصين، أو حتى روسيا، إذا اضطرت إلى ذلك. وهو وإن كان يؤكد ضرورة عدم تجاهل التهديدات في الشرق الأوسط، فإنه يشدد على أن تفعل واشنطن ذلك بطريقة مختلفة، وبحضور أقل، وذلك حتى "تتمكن من تحويل قدراتها وتركيزها نحو التهديدين الصيني والروسي". وبحسب هذه الرؤية، فإن "الدفاع عن المصالح الحيوية للولايات المتحدة لا يبرر وجود قواعد عسكرية أميركية دائمة في المنطقة"، كما أنها "غير ضرورية"، حتى وإن اضطرت الولايات المتحدة إلى زيادة عملها العسكري ضد تنظيمات مثل داعش.
إضافة إلى تركيز الولايات المتحدة على التهديدات الاستراتيجية التي تواجهها من الصين وروسيا، تسعى من خلال إعادة تعريف دور قواتها في العراق لتجنب الهجمات التي تتعرض لها قواعدها هناك من الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران. فمنذ اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، اللواء قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي التي تضم الميليشيات المدعومة إيرانيًا، أبو مهدي المهندس، في كانون الثاني/ يناير 2020، تتعرض القواعد والسفارة الأميركية في بغداد لهجمات مستمرة تشنها عليها الميليشيات المدعومة من إيران. وبالرغم من نقل الجنود الأميركيين إلى ثلاث قواعد عسكرية عراقية بهدف تقليل خطر الهجمات عليها، فإن ذلك لم يوقفها. وتحاول إدارة بايدن الموازنة بين ما تراه من ضرورة وجود عسكري أميركي في العراق لمحاربة داعش، وعدم التصعيد مع الميليشيات الشيعية وإيران، من دون أن تترك الساحة خالية لهم كذلك؛ بحيث يتوافر سند دولي ما للقوى المعارضة للهيمنة الإيرانية في العراق وللحيلولة دون استيلاء الميليشيات التابعة لإيران على الجيش العراقي الذي أعادت الولايات المتحدة بناءه وتسليحه بعد خطيئة تفكيكه؛ وهو ما لا توفره أي قوى إقليمية، فضلًا عن الدول العربية. ومع ذلك، فإنه من المستبعد أن توقف الميليشيات الشيعية هجماتها على القوات الأميركية، خاصة أن هذه الهجمات باتت مرتبطة بنتائج مفاوضات الملف النووي الإيراني واستمرار العقوبات الاقتصادية على إيران أكثر من ارتباطها بطبيعة الدور الذي تضطلع به تلك القوات على الأرض. وعلاوة على ذلك، فإن إيران استفادت من احتلال العراق الذي قضى على أهم خصومها في المنطقة، بمدّ نفوذها داخل العراق، كما استفادت من الحرب الأميركية (الائتلاف الدولي) على داعش. وهي الآن تنوي حصد النتائج كاملة بإخراج الولايات المتحدة من العراق، وإذا ترافق ذلك مع الاتفاق النووي ورفع العقوبات الاقتصادية عليها، فسوف يعني تقوية نفوذ طهران إقليميًا.
أما الحكومة العراقية فتسعى، من خلال إعادة تعريف دور القوات الأميركية في العراق، لتخفيف الضغوط التي تمارسها عليها القوى السياسية والميليشيات المدعومة إيرانيًا، خاصة أنها لا تستند إلى أي قاعدة برلمانية لمواجهتها. ويُنظر إلى الكاظمي في العراق على أنه رئيس وزراء انتقالي، جاء في أعقاب احتجاجات شعبية أطاحت بسلفه عادل عبد المهدي على خلفية مطالب بإصلاحات اقتصادية ومعيشية ووضع حد للفساد وضمانات للحريات وحقوق الإنسان، والأهم من هذا كله رفض النظام الطائفي والحالة الميليشياوية. وقد أدت تلك الاحتجاجات إلى مقتل ما لا يقل عن 600 ناشط عراقي، وإصابة الآلاف برصاص الميليشيات الشيعية الموالية لإيران. وقد جاء الكاظمي إلى منصبه ضمن تفاهمات سياسية وتحت ضغط الشارع واعدًا بإجراء انتخابات مبكرة، ومحاسبة قتلة الناشطين العراقيين. وبالرغم من أن إدارة بايدن تحاول دعمه وتقوية موقفه قبل انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر 2021، فإن الضغوط التي يواجهها دفعته إلى أن يطلب من واشنطن الإعلان رسميًا عن تغيير مهمة قواتها العسكرية في بلاده، ومنحه مساحة مناورة سياسية أوسع في مواجهة حلفاء إيران.
ويجد الكاظمي نفسه في موقف صعب؛ إذ فشلت حكومته في ضبط هجمات الميليشيات المتحالفة مع إيران ضد الأميركيين، في الوقت الذي يجد نفسه مضطرًا في كل مرة إلى إدانة الضربات الجوية الانتقامية الأميركية ضدها باعتبار أنها تمثل انتهاكًا للسيادة العراقية. ويصر الكاظمي على أن مسؤولية الرد على الهجمات على القوات الأميركية وحمايتها تقع على عاتق الحكومة العراقية، التي لا تستطيع فعليًا القيام بذلك.
من جهة ثانية، لم تفلح محاولات الكاظمي تعزيز قوته سياسيًا على الساحة العراقية؛ بسبب استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية التي فاقمتها جائحة كورونا وانهيار أسعار النفط في عام 2020. وقد ازدادت حدة مشاعر الإحباط مع الحرائق التي تندلع بين الحين والآخر في مستشفيات عراقية وأودت بحياة العشرات، والعجز عن محاربة الفساد أو توفير الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء. في حين تدور شكوك حقيقية في قدرة حكومة الكاظمي على تنظيم الانتخابات التشريعية في موعدها المقرر وهو شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2021. وبالرغم من وعود الكاظمي بأن تكون الانتخابات حرة وشفافة ونزيهة، فإن كثيرين يشككون في قدرة الحكومة على ضمان ذلك؛ ولذلك أعلن العديد من الناشطين عن نيتهم مقاطعتها.
خاتمة
لقد جاءت التفاهمات الأميركية – العراقية الأخيرة بشأن إعادة تعريف دور القوات الأميركية ومهمتها في العراق لتخفيف ضغوط القوى السياسية والميليشيات المدعومة إيرانيًا التي يواجهها الكاظمي من جهة، ولإتاحة الفرصة لإدارة بايدن لإعادة ترتيب أولوياتها استراتيجيًا، خصوصًا لناحية احتواء الصين، من جهة أخرى. ومع ذلك، من المشكوك فيه أن ترضي هذه التفاهمات الأحزاب والميليشيات الشيعية، التي تطالب بانسحاب القوات الأميركية كليًا، انطلاقًا من قناعتها بأن وجود هذه القوات في العراق يمنع استفرادها كليًا بالسيطرة عليه. وسيكون أمام إدارة بايدن تحدٍ صعب في حال استمرت هجمات الميليشيات الشيعية على المصالح الأميركية في العراق، وفشل حكومة الكاظمي في التصدي لها.
لقراءة الدراسة من المصدر اضغط هنا