بعد أن توهّم نظام طغمة الأسد بانتصاره على دماء السوريين ودفن حلمهم بالحرية، والمساعي إلى إعادة تأهيله عربياً قد بدأت، إذ تخيّل له بأنه نجى من المساءلة والمحاسبة عن كل جرائمه التي ارتكبها بحق سوريا والسوريين، ونجح بقوّة إجرامه وتوحّشه في لي عنق التاريخ، انبلجت انتفاضة السويداء من رحم الألم والقهر لتوجّه له صفعة قوية ومؤلمة لم يكن يتوقعها.
هذه الانتفاضة المستمرة منذ أكثر من عشرة أشهر, وما زالت تتوهّج يوماً بعد يوم سلمية وحضارة، بشعاراتها الوطنية الجامعة التي استعادت جمال ونقاء البدايات، حرية، كرامة، مواطنة، ديمقراطية.
وما زادها ألقاً المشاركة النسائية الكبيرة والفاعلة فيها إدارة وتنظيماً، فضلاً عن الشراكة بصياغة قراراتها وبكل لجانها وفعّالياتها.
وجاءت لتفرض وتؤكّد على جملة من الحقائق أهمها:
- الثورات لا تموت ولن تٌهزم ما دامت الأسباب التي فجّرتها لاتزال قائمة، قد تكبو.. تتعثّر لكن ستنهض من جديد لتصحح مسارها، وتواصل طريقها لتحقيق أهدافها، فهذه هي حقائق التاريخ.
- لم تكن حدثاً معزولاً عما سبقها؟ بل جائت في سياق الثورة السورية المستمرة ضد طغمة الفساد والاستبداد التي انفجرت في أواسط آذار 2011، وهي إحدى موجاتها الأكثر وجعاً وإيلاماً لها.
- لتؤكّد فشل هذه الطغمة الباغية وعلى مدار 13 عاماً من إنتاج أية حلول توقف الكارثة التي قادت البلاد إليها، ولتكشف عقمها إلّا من إنتاج العنف وتطويره بمواجهة السوريين, وتدمير البلد والتفريط بثرواتها وأصولها السيادية للأجنبي مقابل احتفاضها بالسلطة ولو على جمام السوريين وبقايا وطن.
- أعادت المسك بخيوط الثورة وحواملها منذ بداياتها، مسترجعة كل ألقها وبهائها وشعاراتها الوطنية الجامعة في الحرية والديمقراطية والمواطنة المتساوية، والتأكيد على وحدة سوريا أرضاً وشعباً، وبأن سوريا المستقبل هي وطن نهائي لكل السوريين المتساوين بالحقوق والكرامة والمكانة، والفرص المتكافئة، بغض النظر عن تنوعاتهم وانتماءاتهم الدينية والطائفية والعرقية تحت شعار "الدين لله والوطن للجميع".
- كشفت زيف ما كان يدعيه النظام بخلاف الحقيقة بأن السويداء وغالبية أهلها يصطفون معه، وها هي السويداء بغالبية نسائها ورجالها، بصغارها وكبارها، هبت هبّة رجل واحد تُطالب برحيله.
- قوّضت وهدمت بسلميتها استراتيجية النظام، الذي رسمها منذ بداية الثورة لمواجهة ثورة الشعب السوري، بإدعائه بأنه يواجه مجموعات مسلحة من المتطرفين والسلفيين بما يبرر استخدامه للسلاح والعنف بمواجهتهم، وهذه الورقة بالأساس غير قابلة للتداول والاستثمار في السويداء.
كذلك، أضعفت ورقة حماية الأقليات التي يتكئ عليها من أجل إحداث الشروخ والندبات في العمارة المجتمعية السورية، إلى الحد الذي أخرجها من التعامل.
- التأكيد على العملية السياسية بتراتبية مراحلها الثلاث والمضبوطة زمنياً والمستندة إلى بيان جنيف 1 لعام 2012، والقرار 2254 لعام 2015، وكل القرارات الأممية ذات الصلة، وأعادَتها الى الطاولة مجدداً.
ولأنه لا يستطيع اتهام انتفاضة السويداء لا بحمل السلاح ولا بالدعشنة والتطرّف والإرهاب حاول النظام اللعب بأوراق أخرى، إذ قاد من خلال شبيحته الإعلاميين وعناصر أمنه وحربه الإلكترونية القذرة حملات التشكيك والتخوين لحرائر وأحرار السويداء، واتهام الانتفاضة بارتباطها بأجندات خارجية غير وطنية، وتارة بالانفصالية، وبأنها تسعى إلى فصل السويداء عن الجسد السوري، وأخرى بالإدارة الذاتية والحكم الذاتي؟ وغير ذلك من اتهامات رخيصة.
فكل هذه الحملات باءت بالفشل الذريع، ولم يكن لها أي تأثير أو قيمة في مطارح المجتمع السوري، لأن النظام أصبح عارياً تماماً إلّا من قبحه وإجرامه وكذبه، فلم يعد يصدقه أحد من السوريين، إضافة إلى ذلك، تاريخ السويداء يفيض نُبلاً وإباءً وشجاعة ووطنية؟
لكنه -أي النظام- ما يزال يحمل ويختزل في جعبته الكثير من آحابيل التأمر والدسائس والمسرحيات المكشوفة والمفضوحة للإيقاع بالحراك، كما في مسرحيته المفضوحة التي أعدها ورتّب مشهدها في خياله الإجرامي في أواسط الشهر الخامس الماضي، مدعياً اكتشافه لخلية من داعش مؤلفة من ثلاثة أشخاص في منطقة المنصورة قرب حاجز النقل في السويداء.
ما يزال النظام يحاول عبر أجهزته الأمنية وشبيحته في المحافظة استفزاز شابات وشباب الانتفاضة لجرها إلى حمل السلاح، إلى الساحة التي يتقن القتل والجريمة فيها، لكن وعي قيادة الحراك والقائمين عليه فوتوا عليه هذه الفرصة، بل إنّ هذه الترّهات أعطت مفعولها العكسي، حيث ساهمت بزيادة الالتفاف الشعبي حول الانتفاضة التي عملت على تقطيع أذرعه السامّة والكريهة في المحافظة..
وما يزال يحاول عبر أجهزته الأمنية وشبيحته في المحافظة استفزاز شابات وشباب الانتفاضة لجرها إلى حمل السلاح، إلى الساحة التي يتقن القتل والجريمة فيها، لكن وعي قيادة الحراك والقائمين عليه فوتوا عليه هذه الفرصة، بل إنّ هذه الترّهات أعطت مفعولها العكسي، حيث ساهمت بزيادة الالتفاف الشعبي حول الانتفاضة التي عملت على تقطيع أذرعه السامّة والكريهة في المحافظة، حيث اقتلعت أصنامه وحطّمتها، وأزالت صوره ومجسّمات عائلة الأسد غير الكريمة والمؤذية للنظر والذوق والأخلاق عن غالبية المؤسسات والإدارات الحكومية، وداستها تحت الأقدام، وأغلقت غالبية مقاره الحزبية التي هي في حقيقتها أوكار تجمع الشبيحة للتآمر على السوريين.
إلى الآن لم تنجح كل محاولاته بأخذ مجتمع السويداء وتقويضه من الداخل عن طريق أتباعه وعملائه في إحداث شرخ في الهيئة الدينية لينعكس على المجتمع فُرقة وخلافات وانقسامات ما يقود لإضعافه، ولا عن عصاباته التي يديرها ويحميها والتي تنفّذ أعمال القتل والسرقة والتشليح وطلب الفديات وتجارة المخدرات.
الانتفاضة تجاوزت كل المطبات والأفخاخ التي حاول النظام دفعها لها للوقوع فيها، وحاجز العنقود يأتي في هذا السياق لاستثارة مشاعر الناس واستفزازهم لتسهيل الانزلاق إلى حمل السلاح لضرب سلمية الانتفاضة، فقوتها تُكمن في سلميتها، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تبقى انتفاضة السويداء السلمية عصيةً على محاولات اختراق النظام وتعاند الوقوع في الشرك؟
أعتقد بأن المخاطر جدية وما زالت قائمة، نعم نجحت حتى الآن في تجنّب كثير من المطبات والأفخاخ التي نصبها لها النظام بفضل الوعي الوطني والسياسي للقائمين عليها وعلى تنظيمها، نجحت في الحفاظ على سلميتها وتكريس بعدها الوطني والحضاري وخيارها الديمقراطي، لكن لنتكلّم بواقعية بعيداً عن الرغبوية وبعقل بارد.
السويداء مثل أي محافظة سوريّة فيها الحرائر والأحرار والوطنيون الشرفاء وهم الغالبية العُظمى من أبنائها، وفيها القاع من الفاسدين واللصوص والأسافل، وهم أقلية.. هؤلاء يشبهون هذه الطُغمة الفاسدة ويحملون صفاتها، مصابون بداء نقص المناعة الوطنية والأخلاقية المزمن وانعدام الضمير، وفيها أيضاً بعض المجاميع العسكرية والعصابات التي ما زالت حتى اللحظة تٌدار من أفرعه الأمنية، ويُخطئ من يعتقد بأنه لا يدُسّ بعض عناصره وعسسه في ساحة الكرامة.
ما أردت قوله بأن لا نحمّل الرغبة مواقف سياسية، هناك أوراق ما يزال النظام قادرا على اللعب فيها، مما يٌبقي خوف الانزلاق إلى السلاح قائما، ويعني هذا إن حصل لا سمح الله، هو إعادة لإنتاج الكارثة، واغتيال الانتفاضة السلمية التي أرعبت نظام القتل والجريمة، لذلك وجب الحذر الدائم واليقظة لما قد يٌقدم عليه نظام الأسد لكسر الانتفاضة.
وهذا يطرح علينا سؤالا وجيها، ما العمل لمواجة تلك المخاطر والتخفيف من شرورها إن حصلت لا سمح الله؟ أعتقد بأنه مطلوب من الشخصيات والتجمعات الوطنية والمهنية والأحزاب ومختلف فعاليات الحراك المدني تنحية الاختلافات الشخصية والحزبية والابتعاد عن الفردية والارتجالية والإسراع في الوصول إلى بنية تنظيمية متماسكة للانتفاضة، وإنجاز تمثيلها السياسي الذي طال انتظاره.
أن ينقل صوتها ويتكلم باسمها على المستوى الداخلي والوطني، يفتح حوارات مع كل الأجسام والمجاميع الوطنية المنتمية للثورة في المحافظات السورية للوصول إلى مشتركات وشراكات، وتنسيق الجهود الوطنية والثورية المتاحة، وتمثيلها والتعبير عنها في كل الهيئات والمؤسسات الأممية والمدنية والحقوقية، فهذه الأخيرة لا تتعامل مع الكتل البشرية مهما بلغ حجمها، بل مع من يمثلها.
علينا أن نأخذ في الحسبان بأن النظام مهما كان ضعيفاً، لكنه مجرم وخسيس، وآلته العسكرية ما زالت قادرة على القتل، وهذا يتطلب أيضاً الإسراع في توحيد الفصائل العسكرية التي تحمي ساحة الكرامة، وأقلها تشكيل قيادة مشتركة لها، والاستفادة من خبرات الضباط المتقاعدين بهذا الشأن..
وأن تضع الخطط والاستراتيجيات الوقائية والاستباقية لمواجهة النظام وأحابيله بما قد يقدم عليه ويضمره من شرور للسويداء وانتفاضتها.. علينا أن نأخذ في الحسبان بأن النظام مهما كان ضعيفاً، لكنه مجرم وخسيس، وآلته العسكرية ما زالت قادرة على القتل، وهذا يتطلب أيضاً الإسراع في توحيد الفصائل العسكرية التي تحمي ساحة الكرامة، وأقلها تشكيل قيادة مشتركة لها، والاستفادة من خبرات الضباط المتقاعدين بهذا الشأن، على أن تكون خاضعة للقرار السياسي، مع الابتعاد عن حالة الفوضى والارتجالية لضبط الخطوات والقرارات، وتغليب السلمية ولغة العقل في أي مواجهة محتملة قد تُفرض علينا.
إنّ اخفاقنا في إنجاز تلك الخطوات الضرورية وبعد ما يقارب 11 شهراً من انطلاق الانتفاضة في السويداء، لم يعد مبرراً، لأنّ المخاطر كبيرة وجدية.