ما يحدث اليوم في السودان؛ من اقتتالٍ، يأتي على شعبٍ مزمن التعب والإفقار، وعلى دولة مُنَكَّلة الأركان، برغم إمكانات البلد، مساحةً وموارد، وموقعًا، وثروةً بشرية، فوفق برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، في يونيو/ حزيران 2022: "إنَّ أكثر من ثلث سكان السودان يواجهون انعدامًا حادًّا في الأمن الغذائي؛ بسبب عوامل، منها الأزمات الاقتصادية والسياسية والظروف المناخية والصراعات".
الرئيس المخلوع، المشير عمر البشير تورَّط في الفساد، وتخبَّط، داخليًّا وخارجيًّا، في حروب في جنوب السودان؛ أفضت إلى انفصاله، وفي الغرب، في دارفور، حين أشعل البشير حربًا في إقليم دارفور، قُتل فيها تحت الشعارات الدينية، وإثارة النعرات العرقية، أكثر من 300 ألف مدني، كلهم من "المسلمين" المدنيين، وفقًا للأمم المتحدة. بعدها حمَّل البشير حكومته، وكل مَن حمل السلاح معها المسؤولية عن الدماء في دارفور، وقال بنبرة ندم: "سفكنا دماء المسلمين لأتفه الأسباب".
هذا الاقتتال بعض مخلَّفات الحُكْم السابق، الذي تكثَّفت فيه الانقلابات العسكرية، وآخره حكم البشير، الذي استمر 30 عامًا، والذي جاء بانقلاب سُمِّي "ثورة الإنقاذ الوطني". وما أبعد الاسم عن المُسمَّى، بل ما أحراه بتسمية الإغراق، أو الإنهاك، والانتهاك!
كأن القوات المسلحة صاحبة الوصاية على الشعب، وهي نفسها الخصم والحكم، إذ إنها وقادتها الأكثر وقوعًا تحت إغراءات السلطة، والاستبداد بالقرار، ثم الفساد في الإدارة
وكان البشير اعترف في جلسة محاكمته، بتدبير انقلاب 30 يونيو، وقال: "أتحمَّل كامل المسؤولية عمَّا تم في 30 يونيو". وفي إفادته، متذرِّعًا بأن "تدخُّل القوات المسلَّحة كان بسبب عجْز السياسيين في إدارة الشأن العام".
هكذا، وكأن القوات المسلحة صاحبة الوصاية على الشعب، وهي نفسها الخصم والحكم، إذ إنها وقادتها الأكثر وقوعًا تحت إغراءات السلطة، والاستبداد بالقرار، ثم الفساد في الإدارة، والاستئثار بالحكم، ما داموا يطمئنُّون إلى غياب المؤسسات القادرة على الإطاحة بهم، أو تحديد مدَّة لحكمهم، أو حتى تحجيم صلاحياتهم، والحدّ من تغوُّلهم على القرار، والمصير.
القتال الدائر من الواضح أن محرِّكه الأساس هو الصراع على السلطة بين قيادة الجيش الرسمية (وعلى رأسها عبد الفتاح البرهان)، ورجل البشير، وساعده الأيمن، محمد حمدان دقلو، حميدتي، الذي اختصَّ بقيادة قوات الدعم السريع، التي كانت تُحسَب جزءًا من الجيش، لكنها لم تكن خاضعة له، وهنا كانت الثغرة المُطْمِعة بالسلطة؛ إذ القوة تغري بها، دون أن يعدَم حميدتي دعمًا خارجيًّا.
ولمَّا لم يكن بدٌّ من شرعيةٍ ما، ولو زائفة، ولمَّا كان الشعب حديثَ عهدٍ بثورة ضد الحكم العسكري، فقد أظهر حمديتي نفسَه منقذًا جديدًا؛ منقذًا من السلطة العسكرية، لصالح الحكم المدني، ومنقذًا من الإسلاميين، لصالح القوى المدنية، وفوق ذلك، جعل هذه الدماء والويلات التي يتكبَّدها الشعب، ثمنًا للديمقراطية، فقد قدَّم اعتذاره للشعب السوداني، معتبرًا أنّ "الديمقراطية لها ثمن". وأضاف لسكاي نيوز عربية: "الجيش السوداني يقاتل الآن بما يسمَّى بالمجاهدين، وكتائب مسلحة. نحن الآن لا نقاتل الجيش لأن 90 بالمئة من عناصره خارج الخدمة، وهؤلاء الذين نقاتلهم مرتزقة".
هذا لا ينسينا أداء حميدتي الفعلي في قمع الثورة في السودان، 2018/2019 وفق ما أشار تقرير لصحيفة "ذا غارديان" إلى أن المتظاهرين اتَّهموا، وقتَها، قوات الدعم السريع، التي يقودها حميدتي، بإطلاق النار عليهم؛ ما أدَّى إلى مقتل أشخاص وإصابة العشرات". ويفيد كاتب التقرير، مراسل الصحيفة للشؤون الإفريقية جيسون بيرك، بأن قوات الدعم السريع نُشرت في السنوات الماضية؛ لملاحقة الداعين للديمقراطية، وتم نشر أكثر من 10 آلاف عنصر في العاصمة الخرطوم، بحسب المراقبين. وتذكر الصحيفة أن حميدتي حذَّر المتظاهرين من "الفوضى"، ملمحًا لاستخدام القوة العسكرية، لو ظلَّ الاعتصام مستمرًّا".
هذه الدولة المحكومة، فعليًّا، بالعسكر، تحاول تغييب ما أفرزته الاحتجاجاتُ الشعبية السودانية السلمية، وتضحيات السودانيِّين؛ من أجل حكم مؤسَّسي، خاضع لسلطة الشعب، وقواه المدنية، ثم هؤلاء القادة العسكريون المتقاتلون على السلطة يفرضون على الشعب أن يدفع أثمانًا فادحة لصراعٍ لا يخصُّه، بل، إنه في المآل الأخير، يستهدفه بالنَّيْل من حقوقه، ومن وجوده.
هذه الدولة، أو النظام السلطوي الباطش، لم يخلِّف طيلة فترة حكمه بنية خدماتية، اقتصادية، أو صحية أو تعليمية، أو غيرها تليق بما يُنتظَر من بلدٍ في مثل قدراته؛ ليعاني السودانيون، اليوم، أثقالًا فوق أثقالهم، ولتقع النصال على النصال، في جسد مُنهَك، ومُنْتَهَك.
تنقل لنا صحيفة الشرق الأوسط مشاهد بالغة الأسى، من يوميات الحرب في السودان، منها ما يُظهِر العجز عن دفن الموتى، إذ "كان محمد (25 عامًا) يتلقّى العلاج من سرطان الدم في مستشفى الخرطوم التعليمي، وفق والده إبراهيم (62 عاماً) الذي كان يعوده باستمرار. ويقول الوالد لوكالة الصحافة الفرنسية: «بسبب القتال العنيف، لم يتم نقل الشخص (المتوفى) ليتم دفنه» بعد وفاته في 15 أبريل. بقي محمد في الغرفة، حيث تنبعث رائحة الموت شيئاً فشيئاً، في مدينة تُعرف بحرارة مناخها حتى في هذه الفترة من العام.. بعد ثلاثة أيام، ترك الأب وابنه المستشفى، والجثة في مكانها".
تلك الحالة المؤسية ذكّرتني بما كنت أراه، أيام حُكْم البشير، في الخرطوم، على جانب الطريق العام، رجالًا ممدَّدين، (الشَّمَّاسَّة/ المشرَّدين)، في عزِّ القيظ، بلا حراك، وحين يبدأ النمل يغزو أجسادهم، يكون هذا علامةً على مفارقتهم الحياة. ولم يكن ترْكُ الناس لهم هكذا، عن لامبالاة، لكن إشارة إلى قلَّة الحيلة؛ نتيجة توطُّن الظلم وسطوته. ولكنه يعكس بلادة النظام الحاكم، واستهانته المطقة بحياة مواطنيه.
يشير تقرير ذا غارديان إلى أن صعود حميدتي يرتبط بمنطقته دارفور، حيث يُتَّهَم مع قواته بالقيام بحملة الأرض المحروقة؛ نيابة عن البشير، المتهم بجرائم حرب في الإقليم
كما أنهك السودان، بالإضافة إلى عدم سيطرته على مقدراته وثرواته لصالح دول خارجية، طامعة، تقليدية، أو ناشئة، حربُه مع المتمردين في الجنوب التي انتهت بانفصال الجنوب، الأغنى بالنفط، وإقامة دولة لم تُثبِت، فيما بعد، جدارتَها بالولادة، ثم حربُه الداخلية في دارفور، تلك الحرب التي هيَّأت لحميدتي فرصة الظهور والاقتراب من مركز السلطة، حين اتَّخذه البشير حاميًا، له، تحت تشكيل قوات الدعم السريع، تلك القوات طوت تحت جناحها الجماعات المسلحة، المعروفة بالجنجويد، عام 2013، ويشير تقرير ذا غارديان إلى أن صعود حميدتي يرتبط بمنطقته دارفور، حيث يُتَّهَم مع قواته بالقيام بحملة الأرض المحروقة؛ نيابة عن البشير، المتهم بجرائم حرب في الإقليم.
واليوم تبرز هذه الازدواجية العسكرية بين قيادة الجيش الرسمية، وبين قوات الدعم السريع، كأفعى برأسين، تلتفُّ على جسد السودان، وتوشك أن تخنقه، هذه الحالة الانقسامية، وإن تجلَّت في السودان، إلا أن بلادًا عربية أخرى غير مُحصَّنة من حدوثها.
والخشية أن تَصرِف مفاعيل هذه الحرب الداخلية البلد والشعب إلى فصلٍ جديد يَطوي، ولو إلى حين، غيرَ قليلٍ ممَّا حقَّقته الاحتجاجاتُ الشعبية من قوة حضورٍ للقوى الشعبية والنخبوية السودانية لصالح السطوة العسكرية.