ربما كان، وما يزال، مصطلح (الحرب الأهلية) صادماً لقطاع كبير من جمهور الثورة السورية، لاعتقادهم بأن هذا التعبير ينتقص من عدالة قضيتهم التي يناضلون من أجلها، ذلك أن السوريين انتفضوا في وجه نظام استبدادي صادر حريتهم وانتهك حقوقهم، وهم إذ يطالبون باستعادة تلك الحقوق فإن مسعاهم يتمحور على استرجاع حق السوريين بكل فئاتهم وانتماءاتهم، فلم تكن ثورة السوريين – إذا – مدفوعة بنزاع بين مكونات أو جماعات سورية متصارعة، بقدر ما كانت مُوَجّهة ضدّ نظام حكم هو عدوٌّ للجميع. ومما لا شك فيه أن ما يعتقده الكثيرون الرافضون وصفَ ما يجري في سوريا بأنه حرب أهلية، هو اعتقاد مشروع، بل هو صحيح ودقيق فيما يخص الفترة الزمنية التي تجسّد بدايات الثورة، إلّا أن المسار المتشعب الذي وسم سيرورة الثورة استطاع اختراق جميع التحصينات الأخلاقية والقيمية للحراك الثوري، وتمكّن من الإمساك بمفاصلها الهشة بغية الانعطاف بها نحو مسارات أخرى، ولا ريب أن نظام الأسد كان له السبق في إيجاد هذا التحوّل الخطير في ثورة السوريين، إلّا أن النظام ما كانت له هذه القدرة على الاختراقات السريعة لولا وجود توجهات مماثلة داخل حراك الثورة، سواء أكان هذا التماثل بحسن أو سوء نية.
بعد أن خسر النظام نخبه الحزبية والمؤسساتية، وحاول الاستعاضة عنها بميليشيات عسكرية معظمها من خارج سوريا
العوامل التي أسهمت في تحوّل مسار الثورة من انتفاضة شعب مضطهد يطالب بالحرية، إلى حرب أهلية (على الأقل من وجهة نظر المجتمع الدولي)، كانت أحد أهم النقاط التي تحدث عنها الدكتور عزمي بشارة في لقائه على شاشة تلفزيون سوريا، من خلال برنامج (منتدى دمشق) مساء الاحد في التاسع من شهر أيار الجاري، علماً أن جاذبية الحوار مع الدكتور عزمي إنما تتأتى من كونه أحد المفكرين الأكثر مواكبة واهتماماً بمسار حراك الثورة منذ الأيام الأولى لانطلاقتها، وكذلك لانحيازه المطلق لمطالب السوريين بالتغيير وإقامة دولة القانون والحريات والديمقراطية، ولعلّ هذين السببين قد وسما حديثه بالصراحة التي تبدو موجعة للكثيرين بعض الأحيان، ذلك أن الحرص على عدم بيع الوهم والوقوف أمام المشكلات بكل وضوح وشفافية، موازاة مع الحرص أيضاً على استبعاد نبرة التيئيس والإحباط، فتلك مسألة لا تخلو من استحضار مقدار كبير من الجهد والدقة في الحديث بآن معاً، ولعل هذا ما يلمسه المتابع لحديث الدكتور عزمي حين أشار إلى نزوع واضح لنظام الأسد منذ الأيام الأولى لانتفاضة السوريين، إلى التحشيد المناطقي الذي تحوّل بسرعة فائقة إلى تحشيد طائفي، وذلك بعد أن خسر النظام نخبه الحزبية والمؤسساتية، وحاول الاستعاضة عنها بميليشيات عسكرية معظمها من خارج سوريا، سرعان ما تبدّل دورها، إذ لم تعد هذه الميليشيات خاضعة له بقدر ما أصبحت هي صاحبة المبادرة، ولكن في موازاة ذلك.
ثمة نزوع آخر مماثل للأول بدأ يشيع في مفاصل قوى المعارضة، ويتمثل في سلوك وخطاب العديد من الفصائل العسكرية التي لم تخف خطابها الإسلامي المُطعّم بالنبرة الطائفية، ولعل الأكثر خطورة – وفقاً للدكتور عزمي بشارة – أن هذا السلوك لم يكن ينحصر في الجماعات الإسلامية المتطرفة كداعش والنصرة فحسب، بل كان شائعا ضمن العديد من الفصائل التي تنضوي تحت مسمى الجيش الحر، إضافة إلى ظهور أكثر من قناة إعلامية مناصرة للثورة، إلّا أن خطابها الإعلامي كان يؤدي دوراً مناقضاً لما تنادي به ثورة السوريين، وبالتالي فإن منهج الردّ على الطائفية بخطاب طائفي مماثل قد أسهم في سلب أهم الأوراق الثمينة من الثورة باعتبارها فعلاً جمعياً يسعى لتحقيق مصالح الجميع وليس مصالح طوائف دون أخرى.
الحيّز الذي أولاه الدكتور عزمي للحديث عن دور الفصائل العسكرية ربما لا تكمن أهميته في جانبه التوصيفي، على الرغم من كونه ضرورة، بقدر ما تكمن في النتائج أو التداعيات الخطيرة للمنهج الفصائلي، والتي جسّدت الجذر الإشكالي لتشعّب القضية السورية، فوجود فصائل وتشكيلات عسكرية يغيب عنها أي شكل من أشكال التنسيق الميداني والإعلامي، يجعلها قوى متناثرة مشتتة الجهود من الناحية الميدانية، ثم غياب مشروع وطني جامع يجسّده خطاب إعلامي موحد لتلك القوى يجعلها ليست أكثر من سلطات محلية بتوجهات مناطقية مختلفة، وتبقى المشكلة الأهم – وفقاً للدكتور عزمي – هي غياب قيادة سياسية للقوى العسكرية الموجودة على الأرض، والتي من شأنها ترجمة المنجز العسكري إلى منجز سياسي لصالح السوريين.
النزوع نحو المكاشفة الكاملة والوقفة الجريئة أمام الذات على الرغم من قسوتها تبدو أمراً لا محيد عنه – وفقاً للدكتور عزمي – الذي بدا في حديثه أكثر اهتماماً بالمسائل التي من شأنها أن تعيد المبادرة إلى أيدي السوريين كأصحاب قضية، ولعل هذا ما جعل موقفه في غاية الصراحة والوضوح من مسارات التفاوض التي لم تثمر حتى الآن، ذلك أن الأطراف الدولية التي تتحكم بتلك المسارات لم تدخل بعدُ في طور الاتفاق على حلول سياسية، بقدر ما هي مشغولة بإدارة الأزمة أو إدارة صراع المصالح المتناحرة على الأرض السورية، ولعل هذا يوجب على السوريين عدم إضاعة الوقت بانتظار ما ستسفر عنه عبثية اللجنة الدستورية التي بات نظام الأسد يستخدمها وسيلة لشراء الوقت والمماطلة والاحتيال ومشاغلة الرأي العام، بينما هو يستمر في نهجه الأمني و الضامن الوحيد لاستمراره في السلطة.
وقوع الجغرافية السورية تحت تقاسم النفوذ الدولي، وتبعية قوى الأمر الواقع المحلية لأطراف دولية وإقليمية متعددة، يجعل من العسير إقناع الرأي العام الدولي بوحدة القضية السورية ومشروعية مطالب السوريين بالتغيير، بل لا بد للسوريين – بحسب الدكتور عزمي – بالارتقاء من الراهن المتشظي ميدانياً و سياسياً، والانتقال إلى مرحلة صياغة المشروع الوطني المتكامل الذي يخاطب جميع السوريين بكل مكوناتهم، وهذا لا يستدعي (الانصهار) أو التماثل الكلي بين القوى والتيارات، بل يستدعي إيجاد مظلة جامعة لتلك القوى استناداً إلى مشتركات وطنية أساسية، أي الشروع إلى انعقاد مؤتمر وطني عام لكل السوريين يفضي إلى تشكيل كيان جامع وليس بوتقة انصهار، وربما كان هذا الكيان المفترض الذي يدعو إليه الدكتور بشارة شبيهاً بمنظمة التحرير الفلسطينية.
الخروج من الراهن الصعب للحالة السورية التي بات العالم يتعاطى معها باعتبارها حرباً أهلية، مرهون بقدرة السوريين وصدقهم وإخلاصهم لقضيتهم أولاً
خوف السوريين أو حساسيتهم من مصطلح (الحرب الأهلية) ربما دفع الكثيرين للركون إلى أن المسألة باتت بأيدي الأطراف الدولية الكبرى، ومن غير المجدي العمل ضمن أنساق الثورة الممزقة أو المغدورة، بينما يرى آخرون أن الخروج من الراهن الصعب للحالة السورية التي بات العالم يتعاطى معها باعتبارها حرباً أهلية، مرهون بقدرة السوريين وصدقهم وإخلاصهم لقضيتهم أولاً، إذ ليس من المنطقي أن يطالب السوريون المجتمع الدولي بالتعاطي الإيجابي مع قضيتهم، بينما هم ماضون في التمسّك بتشتتهم وتباين مساراتهم وحرصهم على المصالح الفردية أو الجهوية، ونجاحهم في هذا المسعى هو الكفيل بإخراجهم من صدمة مفهوم (الحرب الأهلية) ليعيدهم إلى فضاء الثورة.