أن يتذكر التاريخ بقوة وحب سيدة ولدت في القرن التاسع عشر، فهو شيء يخفف من وطأة مسلسلات البيئة الشامية التي ظهرت فيها النساء رهينات المحابس الكثيرة، في حين كانت نازك العابد سيدة بستة أجنحة، حلّقت بها في سماء دمشق وضربت مثلا أنثويا رقيقا وشديد التأثير.
خارج سور مدينة دمشق التاريخ وفي حي الميدان وقبل أن يبدأ القرن العشرون بثلاث عشرة سنة وُلدت نازك العابد، كان والدها وجيها دمشقيا أمسك بزمام الولايات العثمانية، فتولى متصرفية الكرك وولاية الموصل.. تلقت نازك تعليما ابتدائيا في دمشق في مدرسة "رشدية"، ولكن الأسرة نُفيت إلى تركيا خلال الحرب العالمية الأولى، وهناك التحقت بمدرسة الفردوس للمرسلين الأميركان في مدينة إزمير، وتابعت تعليما موازيا في الموسيقا فأتقنت عزف البيانو، واهتمت بالتصوير، وكذلك بالإسعاف والتمريض، وخلال تلك الفترة أتقنت اللغات الفرنسية والإنكليزية والألمانية بالإضافة إلى التركية والعربية، فصارت على صغر سنها موسوعة من اللغات والمعارف والمهن المتنوعة، ذات الطابع الإنساني.
أرادت سلطات الانتداب ضمّ المدرسة التي أسستها نازك العابد إلى المعارف السورية، ولكن نازك رفضت دخول مدرستها تحت سلطة الانتداب
أسست نازك العابد بالاشتراك مع بعض السيدات الدمشقيات جمعية نور الفيحاء، ومدرسة لبنات الشهداء، وذلك خلال العهد الفيصلي، حيث انتظمت في فرع المدرسة الداخلي أربعون فتاةً، وفي فَرعها المفتوح ستون فتاة، كنّ يتعلّمن إلى جانب الدراسة الصناعاتِ اليدويةَ وصناعة السجاد وبعض التدبير المنزلي، وقد خصص الملك فيصل لهذه الجهود مبلغا ماليا كبيرا، في ذاك الوقت، وهو خمس وسبعون ليرة شهريا.
أسست نازك العابد جمعية الهلال الأحمر التي كانت تُعنى بشؤون مصابي الحرب، وافتتحت مستشفى يتسع لسبعين سريرا، وكانت قد جمعت تبرعات بقيمة ألف ليرة للقيام بذلك، فمنحها الملك فيصل رتبة تعادل رتبة نقيب في الجيش لقاء هذه الجهود.
بعد دخول الفرنسيين إلى سوريا أرادت سلطات الانتداب ضمّ المدرسة التي أسستها نازك العابد إلى المعارف السورية، ولكن نازك رفضت دخول مدرستها تحت سلطة الانتداب، رغم ذلك تم ضم المدرسة وأبعدت نازك إلى مَعان في الأردن لمدة سبعة أشهر، لكن تم الضغط على سلطات الانتداب فرجعت إلى دمشق واستعادت نشاطها الاجتماعي، رغم أنها بقيت تحت مراقبة سلطات الانتداب. كانت نازك أيضا تكتب في مجلات وصحف سورية منها: لسان العرب والحارس والعروس.. وشاركت في المظاهرات التي انطلقت في الشوارع ضد الانتداب وكانت تقود النساء بخطب حماسية، فألقي عليها القبض ذات مرة ووضعت تحت الإقامة الجبرية في قرية بيت نايم وهي من أملاك والدها. لم تبق نازك العابد هناك كثيرا فهربت إلى دمشق ومن هناك تابعت نشاطها الوطني ضد الانتداب الفرنسي، لكن تمت ملاحقتها بشدة وتهديدها بالسجن فانتقلت إلى حيفا، وهناك أجرت بعض اللقاءات الصحفية أحدها كان في صحيفة الكرمل، ونشرت الصحيفة عنها تحقيقا قصيرا بعددها الصادر يوم السبت 22 حزيران يونيو 1922.
تزوجت نازك العابد عام 1929 من السيد محمد جميل بيهم الذي كانت قد التقته قبل تسع سنوات حين حضر المؤتمر السوري ضمن وفد طرابلس، وانتقلت للعيش معه في بيروت في العام 1930. حافظت على نشاطها الوطني والاجتماعي في بيروت فأسست هناك جمعية المرأة العاملة، ولكن أبرز نشاطاتها كان في القاهرة بمشاركتها في المؤتمر النسائي العربي في العام 1938، كان الهدف من هذا المؤتمر تقديم الدعم للقضية الفلسطينية. خطبت في ذلك المؤتمر ونبهت إلى أخطار تهويد فلسطين الذي بدأت علائمه تلوح في الأفق، ونبهت إلى الدور البريطاني المشبوه في تلك القضية، فأدت حضورا نسائيا لافتا ومؤثرا.
لم تتوقف نازك العابد عن نشاطها في تكوين الجمعيات فقد أسست جمعيتها التالية بعد نكبة فلسطين تحت اسم جمعية "تأمين العمل للاجئين الفلسطينيين"، وكانت أهداف الجمعية موجهة نحو تقديم دروس للاجئات الفلسطينيات بهدف إعدادهن لنيل الشهادة الابتدائية، وتعليمهن بعض الفنون النسوية كالخياطة والتطريز، وفنونا إدارية كالضرب على الآلة الكاتبة، وقد استفاد من خدمات هذه الجمعية عدد كبير من الطالبات الفلسطينيات واستمر عمل هذه الجمعية حتى سنة وفاة السيدة نازك العابد عام 1959.
أبرز نشاطاتها كان في القاهرة بمشاركتها في المؤتمر النسائي العربي في العام 1938، كان الهدف من هذا المؤتمر تقديم الدعم للقضية الفلسطينية. خطبت في ذلك المؤتمر ونبهت إلى أخطار تهويد فلسطين الذي بدأت علائمه تلوح في الأفق،
كانت نازك العابد نموذجا نسويا فريدا في زمن شكّل الإحجام النسوي عنوانا لمرحلة طويلة، سواء بسبب خشية النساء من ولوج العمل في الشأن العام الذي كان يعد خطرا ومحصورا بالرجال، أو بسبب تضييق المجتمع على النساء بفرض الإقامة المنزلية الجبرية عليهن، بحجة أنهن خلقن للبيت وتربية الأطفال فقط، لكن السيدة نازك صنعت نموذجا مشرقا بمساهماتها الوطنية والاجتماعية والصحفية، في زمن حرج من حياة سوريا.