حينما كنت أبحث عن دراسة حول تناول الإعلام التركي بمؤسساته المرئية والمطبوعة والإلكترونية لقضية السوريين المقيمين في تركيا تحت بند "الحماية المؤقتة"؛ لم أعثر في الحقيقة على بحث بالمحتوى العربي يغطي هذا الموضوع في إطار علمي، مما دفعني بدافع كوني صحفيا وباحثا للتطرق لهذا الموضوع، لا سيما أنني وجدت عدة دراسات "تركية" عن الموضوع ذاته.
وذلك أعددتُ دراسة حول هذا الموضوع، وشاركت بها في المؤتمر الثالث للباحثين السوريين في العلوم الاجتماعية، الذي أقامه مركز حرمون للدراسات المعاصرة، وسنحت لي الفرصة هنا كي أشارك أهم مخرجات البحث واستنتاجاته، وكانت خطة البحث تقوم على الأخذ بصحيفتي "جمهوريّت" و"يني شفق" التركيتين نموجاً، ضمن إطار زماني محدد بدءاً من تموز/يوليو حتى نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2022، ما يعني أنه غطّى 4 شهور من عملية الرصد والمتابعة لما تناولته الصحيفتان بخصوص السوريين.
نتيجة لعملية الرصد، تبين أن هناك أخباراً مشتركة في الصحيفتين وأخباراً منفردةً، بمعنى أن هناك موضوعات معينة غطّتها جمهوريّت ويني شفق على حد سواء، وموضوعات تفرّدت بها صحيفة دون أخرى.
أي صحيفة ما حينما تغطي موضوعات معينة فإنما تتناوله في حيز سياستها الخاصة والجهة السياسية التي تتبع لها والمنهج الأيديولوجي الذي ترتكز عليه
ومن اللافت، أن الاختلاف في طريقة نقل المادة وتقديمها للقارئ كان مهيمناً على النوع الأول وهو الأخبار المشتركة بين الصحيفتين، أما في النوع الثاني فكان عنصر "الانتقاء" هو المهيمن، وهذا يشير بدوره إلى القضايا التي تركز عليها وسيلة الإعلام تلك دون الأخرى، والعكس صحيح.
وهذا قد يأخذنا إلى بعد آخر، وهو السياسة التي تتحكم بتغطية معظم وسائل الإعلام تقريباً، ما يعني أن أي صحيفة ما حينما تغطي موضوعات معينة فإنما تتناوله في حيز سياستها الخاصة والجهة السياسية التي تتبع لها والمنهج الأيديولوجي الذي ترتكز عليه.
هذا العنصر تجده حاضراً سواء في وسائل الإعلام المقربة من الحكومة أو المعارضة لها، لا سيما حينما تناول قضايا السوريين، فمثلاً نلحظ الإعلام المعارض يولي أهمية بالموضوعات التي تولًد انطباعاً سلبياً عن السوريين في المجمل، دون تسليط الضوء على الأخبار التي تحكي مثلاً عن نجاحات السوريين وإسهامهم في الاقتصاد التركي أو التي تقدم صورة إيجابية عن السوريين.
في المقابل كذلك، هناك وسائل إعلام مقربة من الحكومة تغطي الأخبار الإيجابية حول السوريين وتنقل معاناتهم وتكافح الحملات العنصرية التي تُشنّ ضدهم، لكنها في نهاية المطاف لا تغطّي حالات إنسانية في عمليات الترحيل.
أو مثلاً حينما تغطي وسائل الإعلام هذه أخبار العملية العسكرية المفترضة في شمال شرقي سوريا والذي كثّر الحديث عنها في الربع الأخير من 2022، وتشير إلى أن هذه العملية ستسهّل عودة اللاجئين من تركيا إلى بلدهم، لكن دون أن تشير في الوقت ذاته للوضع الأمني الصعب هناك، والحياة الإنسانية، وأن الكثير من السوريين المهجّرين هم من مدن يسيطر عليها النظام السوري مثل دمشق وحلب وحمص مثلاً.
بناء على ذلك، تتعمق عملية الانتقاء بما يتناسب مع سياسة كل صحيفة، سواء جمهورّيت أو يني شفق أو غيرهما، فهما مجرد نموذج لحالة موجودة في الواقع الإعلامي.
أما ما يتعلق بمسألة الاختلاف بطريقة النقل وتقديم المادة للقارئ والرأي العام، فهو أيضاً نابع من سياسة الصحيفة كذلك، بجانب هويتها الفكرية كذلك، بل وأيضاً يتحكم بذلك المحرر/الصحفي الذي يكتب المادة، وما يمكن أن يعكس عليها من موقفه أو شعوره تجاه الأشياء والأفكار.
هناك فرق طبعاً حينما تغطي خبراً عن جريمة حصلت، وتكون كلمة "سوري" في العنوان، وبين أن لا تغطي الخبر من أصله، أو أن تغطيه لكن دون إبراز جنسية الشخص في العنوان، وإثارة الجدل الذي قد يؤدي إلى حملة ضد شريحة كبيرة من الناس يشاركون هذا الشخص بقاسم الجنسية.
ولذلك فإن الإعلام كعملية نقل الحدث للرأي العام هو عنصر فعال في تكون أيضاً الأفكار لدى القارئ/المتلقي عن الموضوع الذي هو قضية الخبر/المادة الصحفية، وكثيراً ما شهدنا حملات على وسائل التواصل كان شرارتها خبراً نشرته وسيلة إعلام ما ليبدأ المتلقون الذين هم الرأي عام بنشرها ومشاركتها.
في سياق آخر، وحين الحديث عن جمهوريت ويني شفق كنموذجين للدراسة، يجدر الملاحظة بأن الصحيفة الأولى المحسوبة على التيار المعارض في تركيا كانت تركز على المحتوى السلبي تجاه السوريين في معظم أخبارها ضمن الفترة الزمنية التي غطّتها الدراسة، ولذلك نجد أنها تنقل تصريحات لمسؤولين -على غير عادتها- لمجرد أنها "سلبية" مثل تصريح لوزيرة تركية حول أنه "في عام 2023 لن يكون هناك سوريون في تركيا".
أما الصحيفة الثانية "يني شفق" المحسوبة على التيار الحاكم، فكان من الملاحظة في الواقع بأنها الأكثر تغطية للموضوعات الإيجابية حول السوريين في تركيا، ومكافحة "العنصرية" أو النزعة الشوفينية تجاههم من قبل بعض الشرائح، وإعداد تقارير ضمن هذا السياق.
وكان من الملاحظ بكثير تركيز الصحيفة على أخبار تدحض مزاعم شخصيات محسوبة على اليمين المتطرف مثل أوميت أوزداغ وإيلاي أكصوي.
أهمية وجود منصة/منصات إعلامية تمثل السوريين وتشرح قضيتهم والمشكلات التي يعانون منها
على صعيد النتائج كذلك، لا بد من الإشارة إلى أنه لا توجد تغطية لموضوعات/أخبار تتعلق بالمؤسسات السياسية للمعارضة السورية، وهذا يشير إما إلى عدم وجود تمثيل إعلامي قوي يتواصل مع جميع الأطراف ويشرح القضية السورية واللاجئين وما شابه، وإما إلى أسباب أخرى تتعلق بسياسة الصحف ووسائل الإعلام الموجودة في تركيا.
أيضاً مما يمكن الإشارة إليه كذلك، هو أهمية وجود منصة/منصات إعلامية تمثل السوريين وتشرح قضيتهم والمشكلات التي يعانون منها، بمعنى آخر، منصة تركز على المبادئ الإنسانية والأخلاقية دون الاكتراث بالسبق الصحفي أو التبعية السياسية أو الأيديولوجية، فاللاجئون/المهاجرون/الضيوف هم ضحية حرب داخلية وإقليمية ودولية ولا يتوجب عليهم أن يذهبوا جميعهم سدى في سبيل تلك الحرب حتى لا يُقال عنهم إنهم لم يتركوا وطنهم.
من الواجب الأخلاقي والإنساني وحتى المهني أن تتبنى وسائل الإعلام خطاً يتغلب على خطها السياسي حين تتناول قضايا اللاجئين، وهذا الجانب يمكن تطويره وتدعيمه من خلال إما إنشاء وسائل إعلام سورية ناطقة بالتركية، أو عبر تكثيف التواصل والحضور في مؤسسات الإعلام التركي.