خلال الأسبوع الفائت أعلن (مارك روته) رئيس الوزراء الهولندي ورئيس أبرز حزب في هولندا هجرة العمل السياسي كلياً، والعودة إلى التدريس في إحدى مدارس لاهاي، بعد سنوات طويلة من العمل السياسي، إثر استقالة حكومته التي جاءت على خلفية عدم وجود أغلبية لتمرير قانون الهجرة واللجوء الجديد في هولندا وهو قانون أكثر شِدة من القانون الحالي. واستقالة الحكومة تعني تأجيل اتخاذ مثل هذا القرار الغريب عن تاريخ هولندا المعاصر. وزيرة العدل الهولندية ديلان يشيلجوز وهي سياسية ذات جذور تركية كردية، التقطت الإشارات من قادة حزبها وأعلنت جاهزيتها للمتابعة، بنَفس أشد، لكن من يعلم إن كان حزبها سيحقق أكثرية في الانتخابات القادمة، خاصة أن "كاريزما" روته وخبرته في العمل السياسي كانت "بيضة القبان" في انتصارات حزبه وترؤسه لمجلس الوزراء عبر 12 عاماً وأكثر...
بعد ثلاثة أيام لحقت استقالة مارك روته عن العمل السياسي رئيسة الحزب الأبرز الثاني في هولندا (د 66) زيغريد كاخ السياسية العريقة ووزيرة المالية الحالية والتعاون الدولي السابقة والتي كانت رئيسة بعثة تدمير الأسلحة الكيميائية السورية، والتي تطلق عليها الجالية العربية في هولندا (كنتنا) نظراً لزواجها من الطبيب الفلسطيني أنيس القاق الذي سبق أن شغل معاون وزير الصحة الفلسطينية أيام زعامة ياسر عرفات.
لم تكن استقالة كاخ غريبة غرابة استقالة مارك روته الذي أعلن دائماً تمسكه بالعمل السياسي خاصة أنه متفرغ له كلياً وهو دون زوجة وأولاد، وحقق حضوراً محلياً ودولياً لافتاً. وكانت ابنة زيغريد كاخ أطلقت إشارات حول رغبة عائلتها بأن تترك الأم العمل السياسي نظراً لأنها تعرضت لتهديدات وإساءات من متطرفين وقالت ابنتها: حياتنا تتعرض للخطر، ولا نرى أمنا إلا قليلاً، من حقها أن تعيش كإنسانة طبيعية، فلتبتعد عن العمل السياسي!
وقد تلقت زيغريد الكثير من الإساءات إما بسبب اعتراض كثيرين على طريقة عملها السياسي أو بسبب زوجها العربي أو مواقفها الإنسانية.
تبدو مفردة (اعتزال العمل السياسي) مفردة غريبة على أسماعنا نحن معشر الشرقيين، لأن التخلي عن العمل السياسي والحزبي كلياً وأنت رئيس وزراء أو وزير مالية أو رئيس أكبر حزب في بلد ما، يبدو أقرب إلى الخيال
رئيس حزب الاتحاد المسيحي هوبستكرا تبع كلاً من زيغريد ومارك (والثلاثة حلفاء في التشكيلة الحكومية الحالية) أعلن كابسترا تنحيه عن رئاسة الحزب ويتوقع أنه كذلك انسحب من العمل السياسي لكنه لا يريد إثارة ضجة نظراً لخصوصية حزبه ذي الجذور الدينية.
تبدو مفردة (اعتزال العمل السياسي) مفردة غريبة على أسماعنا نحن معشر الشرقيين، لأن التخلي عن العمل السياسي والحزبي كلياً وأنت رئيس وزراء أو وزير مالية أو رئيس أكبر حزب في بلد ما، يبدو أقرب إلى الخيال، فعادة لا يفارق السياسيون العمل السياسي إلا إلى القبر، فمن سيقود الأمة إنْ ذهب العظماء، والقائد الملهم والملك المعظم...!
وأذكر في هذا السياق زملاء وأصدقاء كثيرين دخلوا العمل السياسي في سوريا وكيف كانت نهايتهم النفسية والحياتية والاجتماعية بعد إقالتهم! ولا ينسى السوريون كيف كانت تصفر وجوه الوزراء حين كانوا يسمعون بتغيير وزاري أو سواه، وبكل أسف انتقل هذا المرض إلى معظم الجهات المعارضة في سوريا والمنظمات العاملة كذلك في الشأن السوري، فلا يخرج أحد إلا بفضيحة أو بوقيعة أو مكر أو دهاء.
في عالم العمل السياسي المعارض رأينا شواهد إيجابية في الاستقالات لعل أبرزها ما رأيناه من موقف الدكتور رياض حجاب سواء أكان بتركه مجلس الوزراء وانشقاقه حين كان يعمل مع النظام، أو تركه هيئة التفاوض حين شعر أنها ستصبح أداة أو بلا دور.
ليس أولئك البشر الذي عملوا في مناصب سياسية أو إدارية في سوريا أو سواها بسيئين فطرياً أو لأن لديهم نهماً للسلطة دفعهم للتمسك الأبدي بها، فحسب، بل كذلك لأنه لا توجد ظروف موضوعية لعودتهم للحياة العادية، وما يتاح لهم إبان عملهم السياسي مختلف كلياً عما يتاح بعده، وهو ما لا نجده في الحياة في العالم الغربي الذي لديه تقاليده وعاداته وكفاياته ومفاهيمه، فتأمين الكفايات وسيادة القانون يجعلان مهمة الوزير مهمة وظيفية، لا يجد الشخص الذي يكلف بمهمة وزير حرجاً إنْ غادر أو جاء إلى الوزارة، أو أن حياته ستنقلب رأساً على عقب!
من سيتجرأ من الوزراء أو المناصب الأقل في معظم دول المشرق، على الاستقالة من أي منصب مهما كان صغيراً أو كبيراً دون أخذ موافقة عشرات الجهات، ولماذا سيستقيل أساساً وقد ارتبط التكليف بالولاء للقائد ومحبة الوطن، فمن سيعتذر عن خدمة وطنه أو عن ولائه للقائد الملهم؟ ونحن الذين اعتدنا توارث السلطة وفقدان الحدود والمنهجيات بين الملك والرئيس ورئيس الوزراء والوزراء، حيث العوالم السرية للعمل السياسي، والحدود المائعة مما يجعل "ترف الاستقالة" بعيد المنال ومختلطاً بعدد كبير من المعطيات والأسرار والفضائح والولاءات.
يقول وزير سوري سابق: سيفتحون عليك ألف ملف إنْ فكرتَ أن تستقيل، دون رغبتهم أو أخذ مشورتهم، هم جعلوا منك وزيراً، وهم يحددون الوقت المناسب للمغادرة، أنت أداة فحسب، وإلا سيفتحون عليك ألف باب وباب، هذه أنظمة الحكم الشمولية وهذه سيرتها!
يرى متابعون للوضع السياسي في هولندا أن أخطاء هذه الحكومة قد تراكمت فوق أخطاء حكومات سابقة رأسها "روته" عبر سنوات طويلة، وهو الذي يدعمه قطاع رجال الأعمال الذين لا يريدون أي خضة في أنظمة الحياة في هولندا، بل إن صحفيين سألوه إن كان سيحصل على وظيفة في شركة "شل" النفطية التي تستثمر فيها هولندا والملك الهولندي شخصياً، حيث نال روته ثقة الملك وعرف بتنسيقه العالي معه في إشارة إلى دور الدولة العميقة في القرارات الاستراتيجية، في بلد كحالة هولندا يعد العمل السياسي عملاً بارداً بيروقراطياً نمطياً. في بلد يمكن أن يسمى: بلد التفاصيل الكثيرة، حيث تأخذ مشاورات تشكيل الحكومة سنة ونصف السنة.
وبحسب تأكيد إحدى العاملات في فرق إحدى الوزارات الهولندية فإن العمل السياسي الهولندي عمل روتيني، يتم دراسة تفاصيله بدقة، ويتبع موقفه الخارجي للموقف الأميركي وموقف الاتحاد الأوروبي بطريقة أو بأخرى.
خاصة أن آلية اتخاذ القرار في هولندا لا تبدأ من الأعلى بل من الأدنى، حيث يعتمد على الإحصاء والبيانات والدراسات المستقلة وإعطاء درجة كبيرة من الاهتمام لرؤية البرلمانيين ومن يمثلونهم، حيث تعد فرق مختصة القرارات وآليات العمل للوزراء!
المتقدمون بطلبات اللجوء عام 2022 وعام 2023 (نحو ثلثهم من السوريين) متشائمون هذه الأيام من تلك الاستقالات التي كانوا هم أحد أسبابها. صحيحٌ أن استقالة الحكومة والسياسيين تعني أنه لن يحدث تغيير كبير في وضعهم القانوني خلال سنة أو أكثر، نظراً لأن الانتخابات النيابية ستجري في تشرين الثاني من هذا العام ومشاورات تشكيل الحكومة عادة ما تأخذ وقتاً طويلاً، وحالياً حكومة تصريف الأعمال لن تأخذ قرارات كبيرة، إلا أنهم من جهة أخرى كانوا يأملون بتحريك أوضاعهم من مثل: سرعة البت بطلباتهم - طلبات اللجوء السورية كلها طلبات مقبولة حتى الآن- أو السماح لهم بالعمل أو التسريع بملف لم الشمل، أو تحسين أوضاع أماكن إقامتهم أو زيادة مكافآتهم المالية الأسبوعية أو السماح لهم بالعمل قبل منحهم الإقامة المؤقتة.
المجتمع الهولندي بحاجة إلى وجوه أخرى ودماء جديدة، فتلك الحكومة ومسؤولوها باتت حلولهم تقليدية ولا تلبي متغيرات الحياة الحديثة وتحولاتها المتسارعة
السبب العميق لتلك الاستقالات واستقالة الحكومة كذلك أن نمط العمل الإداري والسياسي والحياتي في هولندا صار نمطياً ومتكرراً وغير إبداعي، يقوده "العمل المُسَسَتم" في بلد ثري وفيه درجة عالية من الرعاية الاجتماعية إلا أنه بلد بيروقراطي إدارياً وبطيء الإجراءات.
المجتمع الهولندي بحاجة إلى وجوه أخرى ودماء جديدة، فتلك الحكومة ومسؤولوها باتت حلولهم تقليدية ولا تلبي متغيرت الحياة الحديثة وتحولاتها المتسارعة، إذ يوجد اليوم جيل شاب في هولندا كما في معظم دول العالم يسعى لوجود حلول ابتكارية لما تمر به البلاد من مشكلات داخلية من مثل السكن واللجوء والفلاحين، أو مشكلات يتقاطع فيها مع العالم من مثل المناخ والحرب في أوكرانيا...
تخاف الشخصية المستقرة والبلاد المستقرة من التغيير والهزات العنيفة والمغامرات، فالاعتياد على أمن الاستقرار والطمأنينة وثقافة (من تعرفه أحسن ممن لا تعرفه) يجعل من التغيير عملية معقدة وبطيئة في دول الرعاية الاجتماعية حيث يشكل نحو ربع سكانها ممن أعمارهم تجاوزت الستين عاماً أو ممن هم في سن التقاعد، غير أن البلدان كي تبقى، بحاجة إلى جهود الأجيال الشابة في الإدارة والسياسة ومعظم تفاصيل الحياة كي تتقاطع مع خبرات أصحاب التجربة.