رغم أن القصف الإسرائيلي لمناطق في سوريا ليس جديداً بل يمتد لسنوات طويلة، إلا أنه في الفترة الأخيرة أصبح حدثاً روتينياً يكاد يكون شبه يومي، ويأتي تحت عنوان محاربة الميليشيات الإيرانية الموجودة في مناطق عديدة من سوريا، والتي تقلق إسرائيل وتدفعها لقصفها لتقليص خطرها على أمنها.
تلك الفرضية دخلت ضمن مسلمات المعادلة السياسية القائمة والمتشابكة إلى حدود التلغيز، فالذرائع والحجج المستخدمة من قبل القاصف والمقصوف، تبدو منطقية في سياق قواعد اللعبة الاستراتيجية والعسكرية والمصالح والمواقف الخاصة بكل دولة.
غير أن تكثيف القصف الإسرائيلي في الفترة الأخيرة على مناطق في دمشق، وتحديدا في كفرسوسة يثير الشكوك في بديهية تلك الفرضية ويدفعنا لكسر المسلمات والتفكير في سيناريو آخر قد يكون محتملاً، سيناريو بات علينا ألا نستبعده استناداً إلى نظرية المستفيد والمتضرر والنتائج، فتطبيق هذه النظرية قد يوصلنا إلى منطقة جديدة في التحليل تكسر الطرق النمطية وتفتح أمامنا الهوامش المغلقة.
إن النتائج المباشرة التي تحققها تلك الضربات تتمثل في مزيد من الوجود الإيراني ومزيد من التهجير للسوريين بمن فيهم الطبقة المرتاحة ماليا ورجال الأعمال غير المرتبطين مباشرة بالنظام السوري أو بإيران، وهو ما يتماهى تماماً مع المشروع الإيراني، وبتضييق العدسة وتركيزها على منطقة كفرسوسة، سنجد أن الضربات الإسرائيلية تقدم خدمة جليلة لإيران التي تعد تلك المنطقة من أولوياتها وتسعى جاهدة لشراء عقاراتها ومنازلها وأراضيها، ومع تلك الضربات الإسرائيلية ومع تواصلها، فقد سكان تلك المنطقة أي أمل بالبقاء والاحتفاظ بمنازلهم وعقاراتهم وباتوا مستعدين لبيعها بأبخس الأثمان، وهو ما يتوافق تماماً مع السياسة الإيرانية وأهدافها ويسهل عليها المهمة، فهل غابت تلك الفكرة عن ذهن إسرائيل؟ أم أن إسرائيل تساعد إيران في تحقيق مصالحها في سوريا وتحديداً ما يتعلق بمشروع التهجير؟
لقد اجتمعت كل العوامل الاقتصادية والمعيشية الصعبة على أهالي دمشق، ومع ذلك فإن أهالي كفر سوسة بالذات ظلوا حريصين على ممتلكاتهم العقارية التي يعرفون قيمتها جيداً
ثمة من يذهب إلى أبعد من ذلك، فربما كانت إيران ذاتها هي من يقصف تلك المناطق وربما كانت الضربات متفقاً عليها بين الإيرانيين والإسرائيليين، خاصة أن النتيجة الوحيدة التي تتحقق حتى الآن هي سهولة تخلي أصحاب العقارات في منطقة كفرسوسة عن عقاراتهم بأسعار زهيدة رغم أن سكان ذلك الحي ممن أيدوا النظام فعلوا ذلك حرصاً على ممتلكاتهم العقارية في تلك المنطقة الحساسة وسط دمشق.
لقد اجتمعت كل العوامل الاقتصادية والمعيشية الصعبة على أهالي دمشق، ومع ذلك فإن أهالي كفر سوسة بالذات ظلوا حريصين على ممتلكاتهم العقارية التي يعرفون قيمتها جيداً، ولكن مع الواقع العسكري الذي يضاف إلى الواقع الاقتصادي والمعيشي، فقد تلاشى لديهم أي أمل وبات الخروج من سوريا حلماً يراودهم تماماً كما يراود السوريين الآخرين، وهذا ما تسعى إليه إيران وما يتوافق كلياً مع مشروعها في المقام الأول.
وإذا تأملنا النتائج التي حققتها إسرائيل حتى الآن من خلال تلك الضربات التي من المفروض أنها توجهها للميليشيات الإيرانية، لما وجدنا أثراً حقيقياً، فهي لم تستطع حتى الآن التقليل من الخطر الإيراني، فالقتلى الإيرانيون الذين يستهدفهم القصف -مهما علا شأنهم- هم أرقام يمكن لإيران استبدالهم بشخصيات أخرى، وربما كان مقتل قاسم سليماني الشخصية العسكرية الأبرز في الحرس الثوري الإيراني أوضح مثال على ذلك، حيث لم تكسر تلك الضربة ظهر إيران ولم تربك مشروعها ولم تعقه، ولم يترتب على مقتل قائد حرسها الثوري أي تأثيرات قادرة على تغيير سلوك النظام الإيراني أو دفعه للتفكير في الانسحاب من سوريا أو تقليل دعمه لحزب الله أو تزويده بالأسلحة. باختصار: لم تحقق تلك الضربات أي تغيير في المعادلة، إلا بما يتوافق مع المشروع الإيراني الذي لا يمكن أن يكون غائباً عن وعي إسرائيل، فلماذا تصر إسرائيل على تلك الضربات التي تكلفها كثير من الجهد والمال وهي تعرف أنها محاولات مسدودة الأفق؟
وفي هذا السياق لا بد من العبور على الموقف الإسرائيلي من الأسد، فهو الذي يعطي الشرعية للوجود الإيراني في سوريا، ولو كانت إسرائيل متضررة فعلاً من ذلك الوجود، ولو كان يشكل خطراً حقيقياً عليها وعلى أمنها لفكرت بطريقة استراتيجية مختلفة، ولا سيما إن أخذنا بعين النظر أن إسرائيل لا تعتمد في سياستها على منطق رد الفعل، بل على خطط استراتيجية مدروسة، وغالباً ما تكون استباقية وبعيدة المدى وخاصة في موضوع حساس يتعلق بأمنها.
ومن هنا فإن الحل الأمثل أمام إسرائيل لتلافي تلك الأخطار هو أن تحاول إزالة المتسبب وإزاحة الغطاء الشرعي للوجود الإيراني في سوريا وهو بشار الأسد، وعندها ستضع الإيراني في موقف شديد الحرج وتفقدها تلك الشرعية التي تتشدق بها والتي حمت دخولها غير الشرعي إلى سوريا ولا زالت تحمي استمرارها فيها.
غير أن الموقف الإسرائيلي من الأسد يتمثل في مزيد من الدعم له والتمسك به والدفاع عنه لدى صناع القرار الدولي، ولو كان الوجود الإيراني في سوريا مؤلماً لإسرائيل إلى تلك الدرجة التي تدفعها إلى تجشم عناء الضربات المتتالية بلا نتائج حقيقية لما ترددت في التضحية بالأسد مهما كانت مصالحها مرتبطة بوجوده.
من جهة أخرى، فإن أكثر ما يزعج إسرائيل، ظاهرياً، من تلك الميليشيات الإيرانية هم عناصر حزب الله القابعون على مرمى حجر منها في ضاحية بيروت الجنوبية، وكان من الممكن لإسرائيل أن توجع حزب الله أكثر لو ضربت قياداته الموجودين في الضاحية، أو لو حاولت اغتيال حسن نصر الله ذاته، ولكنها على مدار عقود لم تفعل ذلك، لم تقدم حتى على تلك المحاولة رغم قدراتها الاستخبارية العالية ولجأت إلى تصفية بعض العتاد والجنود في سوريا.
إيران خامنئي لا تتردد في التخلص من ضباطها الذين يعلو شأنهم وتكبر طموحاتهم من ناحية، وتضمن من ناحية أخرى استكمال مشروعها، كما أنها تحقق هدفاً آخر وهو تأكيد عدائها مع إسرائيل وترسيخه
ماذا يعني ذلك؟ هل تقوم إسرائيل بالاتفاق مع إيران بتنفيذ تلك الضربات في مشروع تهجير مشترك للسوريين أو من تبقى منهم ممن يقفون ضد المشروع الإيراني أو أولئك الحياديون الذين لا تقبل إيران بحياديتهم، أم هل تضرب إيران نفسها في سوريا من أجل استكمال مشروع التهجير؟ وماذا عن ضباطها وجنودها الذين يقضون في القصف؟
لا يمكن أن نستبعد فرضية العصفورين بحجر واحد، فإيران خامنئي لا تتردد في التخلص من ضباطها الذين يعلو شأنهم وتكبر طموحاتهم من ناحية، وتضمن من ناحية أخرى استكمال مشروعها، كما أنها تحقق هدفاً آخر وهو تأكيد عدائها مع إسرائيل وترسيخه، وهو الأمر الذي تتعيش عليه منذ عقود.. كما أن إيران قد تعترف بمقتل ضباط دون أن يكون لروايتها أصل، فمن غير المستبعد أن تعلن عن وفاة أشخاص وهميين في سبيل هدفها دون أن يكون لدى أحد القدرة على كشف لعبتها هذه والتي تتحكم وحدها بخيوطها..
ما يمكن أن يدعم ذلك الاستخلاص هو ليس فقط سكوت الأسد العاجز أساساً عن أي رد فعل، بل تمرير صدى تلك الضربات على المستوى الإعلامي السوري وكأنها شأن لا يعني سوريا، حيث لم يعد النظام يولي شأنا لتلك الضربات إلا من خلال خبر عابر وكأن الحدث يجري في بلد آخر وعلى الضفة الأخرى من الكرة الأرضية..
كل الضربات الإسرائيلية على سوريا تستهدف المناطق التي توجد فيها الميليشيات الإيرانية، ذلك كله يمكن تفسيره ظاهرياً بعداء إسرائيلي إيراني واستهداف للشخصيات الإيرانية، ولكنه في العمق، وبالقياس إلى النتائج يمكن تفسيره أيضاً بأنه ترتيب إيراني ولا يستبعد أن يكون بيد إيرانية.
إن تفكيك آليات الخبث الفارسي هو طريق إجبارية وباتجاه واحد لتجنب الخدع الإيرانية والابتعاد عن الوقوع في المسلمات التي تحدد تفكيرنا في مكان واحد لا يمكن مغادرته، وبالتالي فإن فرضية أن الضربات الإسرائيلية هي ضربات إيرانية لا يمكن استبعادها، ولا يمكن أيضاً تفسيرها بأنها تحليل ساذج ومستبعد.