توشك الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، على الانتهاء، فيما لا تزال "المسيحية السياسية" في لبنان تراوح بين غضبين: غضب قواتي حقيقي، وغضب عوني باسيلي مفتعل. بين الغضبين يغضب المطارنة الموارنة، بينما تكاد أذرع إيران العسكرية في المنطقة تبلغ النهايات التي ترجوها وتنشدها منذ ما قبل السابع من أكتوبر.
هي نهايات غير محددة ولا تحيط بها صفة أو سمة، غير الاستمرار في المقاومة والمضي قدماً على طريق القدس، وإن كانت الطريق تلك توصل إلى غير القدس، وتؤدي إلى دمار وخسارات في الأرواح لا تُعدّ ولا تُحصى. دمار يخرج من بين ركامه دائماً نصر ما، ووعد بحرب مقبلة لا محالة آتية.
غضب "تاريخي"
مردّ الغضب الأول، أي الغضب القواتي الذي يصرح به ليل نهار رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، ليس وليد اللحظة السياسية الراهنة، ولا اللحظة التي سبقتها وأسست لها. غضب جعجع مردّه إلى اضمحلال هيمنة مارونية سياسية، وشوكة كسرها الفلسطينيون خلال "حروب الآخرين على أرضنا" كما كان يحلو للراحل غسان تويني أن يردد دائماً، وقبلهم وبعدهم كسرها ذووها أنفسهم، أي الموارنة، في نزاعاتهم الداخلية ورهاناتهم الخارجية وحروبهم في سبيل الكرسي الأول.
هذا الغضب يدفع إلى نرجسية جماعية، تاجها عبارات وتصريحات تخرج بين الحين والآخر، وتتحدث عن أن الآخرين في الوطن، "لا يشبهوننا"، أما مبعثها ففينيقية قديمة وتاريخ قلّما انفصل عن تاريخ المنطقة عموماً. وهذا الغضب أو هذه المارونية عتيقة وراسخة في الخطاب السياسي المسيحي عموماً والماروني خصوصاً رسوخ الموارنة في لبنان والمنطقة، وهو غضب لم يُعوّل عليه يوماً ولم يبنِ لبنةً واحدة في مدماك الوطن، بل البناة كانوا تاريخياً من الخارجين عليه.
غضب "آنيّ" و"مفتعل"
أما الغضب الثاني، أي الغضب العوني الباسيلي، فمردّه إلى أمور أصغر، وهو غضب صنعته خيارات التيار الوطني الحرّ، منذ أولى حروب قائد الجيش السابق ورئيس الجمهورية اللاحق والمنفي بينهما، الجنرال ميشال عون، وصولاً إلى حروبه الأخيرة في سبيل رئاسة الجمهورية أيضاً وفي أثناء توليه منصبها، وليس انتهاءً في حرب وريثه وصهره جبران باسيل، في سبيل وراثة ما لم يرثه بعد وما لا يورّث، عند الموارنة.
هو باختصار، غضب في سبيل الموقع الأول. يريد رئيس التيار الوطني الحر رئاسة الجمهورية، أو الكلمة الفصل فيها، بينما فرّط هو وعمّه وتيارهما بالجمهورية كلها، من قرار السلم والحرب انتهاءً بأصغر الصلاحيات. يقاتل ويغضب في سبيل منصب ما عاد شاغله يحلّ ويربط، في جمهورية "تمضي" بلا رئيس مذ سلّمها الجنرال للمجهول للمرة الثانية في تاريخه. سلّم رئيس التيار الوطني الحر القرارات المصيرية والملفات السيادية الحساسة لحليفه حزب الله، وتفرّغ للحرتقات من التعيينات الصغيرة إلى التموضعات المحلية الضيقة التي هي أصغر بكثير.
الغضب الثالث "ساطع"
بين الغضبين، يسطع غضب ثالث، عبّر عنه المطارنة الموارنة في بيان بعد اجتماعهم الشهري الأخير برئاسة البطريرك بشارة الراعي. وهو غضب قديم جديد، لا ينفك رأس الكنيسة المارونية يعبّر عنه بين العظة والعظة، ومن وقت إلى آخر.
هو غضب ما عاد واضحاً ما إذا كان مبعثه شخصياً، يتعلق بالحملة التخوينية التي تُشنّ على البطريرك بين الموقف والموقف، أم سببه ماروني بحت يمتّ بصلة وثيقة إلى حالة الشرذمة والتباعد التي تسود بين أقطاب الطائفة وساستها منذ رئاسة، بل منذ رئاسات، أو هي موقف وطني عام له علاقة بما يجري في الجنوب والمنطقة عموماً، وبالاستيلاء على قرار الحرب والسلم وفتح جبهة الجنوب أمام بعض الفصائل الفلسطينية بما يذكّر بالأيام الخوالي ويعيد فتح جرح لم يندمل بعد.
غضب عتيق وغياب أعتق
بين الغضبين، بل بين الغاضبين الثلاثة، يرزح الموارنة تحت ثقل غضب عتيق لعلّ تاريخه الرسمي هو تاريخ إقرار وثيقة الوفاق الوطني، عُبّر عنه بمقاطعة الانتخابات النيابية الأولى بعد الطائف عام 1992، أما تاريخه الفعلي فسابق على ذلك بكثير. يرزحون تحته، أو يهاجرون بعيداً عنه، أو يمالئون المغضوب منهم وبسببهم وعليهم.
لكن بعيداً عن الأسباب الآنية أو المرحلية تلك، ثمة سبب عتيق أيضاً هو غياب القامات المارونية التاريخية، والتاريخية هنا بمعنى الدور الماروني والمستقبل اللبناني، لا بمعنى القدم والإيغال في التاريخ، بل الإيغال في المستقبل.
لم يقدّم الموارنة منذ زمن طويل شخصيات من طراز الشيخ بشارة الخوري، تُقدم على اجتراح تسوية تاريخية تنهض بأجنحة الوطن كلها، أو بجناحيه كما درج القول، فيحلّق لبنان وطناً فريداً في المنطقة والعالم. لم يعد هناك ماروني من طراز فؤاد شهاب، مع احترام الجميع، قادر على كسر حدة الاستقطاب، وكسر المحاور، بخيمة على الحدود كما فعل يوم التقى الرئيس جمال عبد الناصر، مبعداً عن لبنان كؤوساً كثيرة قدّمها لاحقاً كثرٌ من الموارنة وعلى صينية من ذهب، فحفظ لبنان وحفظ العرب وحافظ على صورة لبنان وفسيفسائه مجترحاً خيمةً هي في السياسة أكثر بكثير من قطعة من القماش، وفي الوطن ركن يعوّل عليه، ولا يزال يصلح لزمننا هذا ومحنتنا هذه.