نفّذ أهالي مدينة منبج يوم أمس الأول (الخميس 26 – 1 – 2023) إضراباً عاماً شمل معظم الفعاليات التجارية والاقتصادية والخدمية، وذلك احتجاجاً على حملات التجنيد الإجباري التي تقوم بها سلطات قسد، كما ترافقت حملات الملاحقة للشبان مع إقامة حواجز داخل المدينة وخارجها وقطع الطرقات أمام المارين، وإيقافهم ساعات طوالا في الليل والنهار تحت وطأة البرد القارس، متجاهلة الحالات الإنسانية للأطفال والنساء، وقد تزامنت هذه الحملة في منبج مع حملات أمنية تمحورت في مدينة الرقة، حيث اعتقلت سلطة الأمر الواقع المئات من الشبان ممّن تتراوح مواليدهم بين (1998 – 2005). وبالعودة إلى طبيعة ما يحدث نجد أنها ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها مواطنو مدينة منبج إلى مواجهة قسد باحتجاجات سلمية كالتظاهر والإضراب، وإنما باتت هذه الاحتجاجات أمراً ملازماً للدفاع عن الحقوق، بل للدفاع عن حقهم في الوجود الذي يتجاوز – بالنسبة إلى عامة السكان – مسائل الاصطفافات السياسية.
لا جديد في القول إن حملات التجنيد الإجباري من جانب قسد كانت تتزامن على الدوام مع الحملات السياسية والإعلامية التي تتداولها وسائل الإعلام حول إصرار الحكومة التركية على القيام بعملية عسكرية تستهدف قوات قسد في مناطق تل رفعت ومنبج وعين العرب، كما تتزامن أيضاً مع النهايات الخاوية لمجمل حملات التواصل التي تقوم بها حكومة الإدارة الذاتية مع مخابرات نظام الأسد، وبالتالي فإن الضغوطات العسكرية والسياسية وانحسار الخيارات المتاحة كانت تدفع قسد للالتفات نحو استثمار المجال الجغرافي الذي تسيطر عليه لاستخدام أبنائه كمقاتلين ومدافعين عن سلطات فُرِضتْ عليهم فرضاً ولم يكن لهم أي خيار بوجودها، وعن سياسات لا تنبثق من تطلعاتهم وأهدافهم، وغالباً ما كانت تُواجَه احتجاجات الأهالي بتهمة الخيانة والتخلف عن الواجب أو التبعية للجيش الوطني أو العمالة للدولة التركية، في حين لا يجد المواطن أمامه سوى خيارين: إمّا السجن وإمّا ترْك الديار والبحث عن طرق تهريب جديدة للهجرة خارج البلاد، أمّا احتمال الاستجابة والانخراط في الصفوف القتالية لقسد فذلك ما يراه معظم المواطنين على أنه انتحار أو موت مجاني لا ينبغي التسليم به، وذلك لجملة من الأسباب، لعل أبرزها:
هل يتوجب على أهالي منبج اليوم تسديد ثمن طرد تنظيم داعش الذي قاوموه ودافعوا عن وجودهم بالأساليب ذاتها التي يقاومون بها – اليوم - سلطات قسد؟
أولاً – منبج مدينة عربية، 90 % من سكانها عرب، وليست امتداداً لمنطقة (روج آفا) التي يسعى إلى إقامتها حزب الاتحاد الديمقراطي الذي لم يظهر وجوده في المدينة إلّا بعد انطلاقة الثورة وجلاء قوات النظام من منبج وما حولها من مدن وبلدات، ولم تحظ قسد بأي ثقل عسكري أو مدني إلّا بعد الحرب التي شنها التحالف الدولي لطرد داعش في صيف 2016، فهل يتوجب على أهالي منبج اليوم تسديد ثمن طرد تنظيم داعش الذي قاوموه ودافعوا عن وجودهم بالأساليب ذاتها التي يقاومون بها – اليوم - سلطات قسد؟
ثانياً – ما لا تدركه سلطات الأمر الواقع في الجغرافية السورية كافة، وقسد على وجه الخصوص، أن وعي السوريين بعد عام 2011، وعلى الرغم من استمرار مأساتهم الحياتية، بات أقوى وأكثر قدرة على إدراك ماهيّة قضيتهم ذات الجذر الوطني العام والبعيد عن الأجندات التي تحملها القوى العابرة للوطنية، إذ لم تكن بواعث ثورة السوريين منبثقة من صراع المواطن العربي مع الكردي أو التركي أو سواه، وإنما هي ببساطة ثورة شعب ضدّ طغمة إبادية غاشمة حوّلت البلاد إلى مقتلة حقيقية واستجلبت جميع أشكال الاحتلالات في سبيل بقائها في السلطة، فما الذي سيجعل المواطن الذي تطارده شظايا الموت الأسدي قانعاً بالدفاع عن سلطة قسد التي لا توفر أية فرصة للتفاهم مع نظام الأسد، بل تعلن استعدادها جهاراً للانضواء تحت مظلته والتماهي في منظومته الإجرامية إنْ هو أبدى اعترافاً دستورياً بشرعية إدارتها الذاتية؟
ثانياً – في الوقت الذي تشهد فيه مدن وبلدات الشمال السوري حراكاً شعبياً لاهباً، تعبيراً عن رفض السياسات الإقليمية الساعية نحو التطبيع مع نظام الأسد وإعادة تعويمه، تزامناً مع حراك شعبي مماثل في الجنوب السوري، وحتى في مناطق سيطرة قسد، وكذلك في الوقت يتطلع فيه الكثيرون لاستلهام هذا الحراك ليكون منطلقاً جديداً لثورة السوريين، تطالب قسد سكان منبج والرقة وباقي مناطق سيطرتها للانخراط في اتجاه آخر لا يفضي سوى إلى تعزيز الضياع وتشتيت الهدف، وفي هذا السياق يمكن طرح السؤال التالي: هل يقبل حزب الاتحاد الديمقراطي pyd – القائد الفعلي لمشروع قسد - بالتضامن مع الحراك الشعبي السوري ويعلن رفضه القاطع لأية خطوة من شأنها إعادة تعويم الأسد؟ وهل بمقدور الحزب ذاته التأكيد على أن خلاص السوريين مرهون بزوال نظام الإجرام الأسدي؟ ولا تفوتنا الإشارة إلى أن مجمل الإدانات الخجولة للنظام والإشادة الكلامية بحراك الشمال السوري غالباً ما تنتهي تحت وقع أي تهديد تركي جديد باستهداف قسد، وكذلك غالباً ما تتحوّل إلى نداءات استغاثة بقوات بشار الأسد كونه صاحب السيادة الشرعية التي توجب عليه الدفاع عن الأراضي السورية وفقاً لخطاب قسد.
ثالثاً – بعيداً عن السيرورة التي أفضت بالجغرافيا السورية إلى تقاسم نفوذ دولي، يمكن التأكيد بكل وضوح على أن حالة العداء بين حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري – حزب الاتحاد الديمقراطي – وبين الحكومة التركية، ليست وليدة الظرف الراهن وليست وليدة ما بعد عام 2011، بل هي استمرار للعداء التقليدي بين الطرفين منذ عقود طويلة، فهي مشكلة تركية في الأصل، وينبغي أن يكون الحل تركياً، وهذا ما لم يعد خافياً على أحد، فلماذا يراد أن يكون هذا العداء بديلاً للسوريين عن معركتهم التحررية الوطنية؟ ولماذا يراد منهم أن يكونوا وقوداً لهذه الحرب؟
هل يجسّد إصرار قسد على فرض التجنيد الإجباري امتداداً للتغيير الديموغرافي الذي تمارسه ميليشيات إيران ونظام الأسد في باقي الأنحاء السورية؟
رابعاً – لقد تمكّنت قسد – بفضل الدعم الذي يقدمه التحالف الدولي – من بسط سيطرتها على الشطر الأكثر غنًى وثراءً من الأراضي السورية، ولم تأتِ لتحكم بقياداتها من تركيا وإيران فحسب، بل جلبت معها مناهجها التعليمية وقيمها الإيديولوجية مُكَلّلةً بصور أوجلان التي لا يخلو منها مبنى إداري أو عسكري أو حتى في الساحات العامة، لتفرض على سكان تلك المناطق ذات الأغلبية العربية أحد خيارين اثنين: إما القبول والامتثال، وإمّا النزوح أو الهجرة، ولا يحتاج الأمر إلى تعليل أكثر لظاهرة باتت شديدة الحضور في معظم مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، وتتمثل بإقبال شديد من السكان لبيع ممتلكاتهم وبيوتهم بأثمان زهيدة لتأمين مبالغ مالية تُمكّنهم من مغادرة البلاد عبر المغامرة بأرواحهم سواء في قوارب الموت البحرية، أو مواجهة اللصوص وتجار البشر في غياهب الغابات الموحشة، فهل يجسّد إصرار قسد على فرض التجنيد الإجباري امتداداً للتغيير الديموغرافي الذي تمارسه ميليشيات إيران ونظام الأسد في باقي الأنحاء السورية؟
ما من شك، وبعيداً عن مدى فاعلية جميع القوى المحلية في سوريا، فإن الضامن الأكبر والأقوى لأمن واستمرار قسد هو الولايات المتحدة الأميركية التي لا تدّخر جهداً – ومنذ سنوات – لتجسير الفجوة وخفض حدّة الاحتقان والتوتر بين قسد والحكومة التركية، وذلك بحكم مسؤوليتها عن سلامة شريكها العسكري، ولكن أيضاً ألا يستحق ملايين المواطنين السوريين ممن يتواجدون في مناطق سيطرة قسد تلك السلامة ذاتها التي تنشدها قسد، وكذلك ألا يحتاجون لاحترام آدميتهم وكرامتهم من خلال توفير الحد الأدنى من حقهم بالعيش الكريم وزوال الظلم ورفض سياسة الإكراه والقمع، أم أن هؤلاء باتوا عالةً على من يحكمهم؟