من النادر أن تجد حزباً سياسياً عمره أكثر من 100 عام وما يزال نشطاً بقوة في الحياة السياسية، مثل حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة في تركيا، ومع ذلك فإنه لا يتمتع الآن بقيادة على المستوى الذي يستحقه كحزب قديم أسسه مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك.
من الطبيعي القول إن حزب الشعب الجمهوري لم يصل للسلطة إلا في حقبة "الحزب الواحد" حينما لم تكن هناك تعددية حزبية مطلع تأسيس الجمهورية 1923 إلى حين السماح بإنشاء الأحزاب السياسية عام 1946، ومنذ ذلك الحين كان الحزب عاجزاً عن الفوز بأغلبية تخوله تشكيل حكومة دون حكومة ائتلافية.
ليس المقام هنا لنقد حزب دون آخر، فلا يوجد حزب سياسي دون أخطاء، لكن سنن الحياة الاجتماعية والسياسة كذلك تدفع البعض للتساؤل عن عدم تمكن أي حزب معارض من الوصول للسلطة رغم أن العدالة والتنمية كحزب حديث أُسِس في 2001 تراجعت قوته وشعبيته في ظل أكثر من عشرين عاماً أتعبته واستنفدت الكثير من طاقته وهو في سدة الحكم وإدارة عشرات الملفات الداخلية والخارجية المعقدة.
الأمر لا يتعلق بتقييد حريات على الإطلاق على خلاف ما تذهب إليه بعض وسائل الإعلام الغربية، وكما أن الحالة السياسية في تركيا ليست ديمقراطية مئة في المئة فإنها كذلك ليست استبدادية أو ذات ديمقراطية خدّاعة، فهناك عشرات الأحزاب وعشرات القنوات والصحف المعارضة، لكن بالوقت نفسه هناك قيادة تجيد إدارة اللعبة وتتحكم بها، وقيادة معارضة على نقيض ذلك.
السؤال هو هل يمتلك حزب الشعب الجمهوري قيادة تجيد التحكم باللعبة؟
حاول رئيس الحزب السابق كمال كليتشدار أوغلو إلى حد كبير اللعب بذكاء ضد خصمه التقليدي الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، فهو أول من تقرب من الأحزاب المحافظة واعتذر للمحجبات واعترف بأخطاء الحزب السابقة ضد الشريحة المحافظة والقيم الدينية.
كما تقرب من الأكراد، وتحالف معهم سراً وعلانية، وأصواتهم هي التي لعبت الدور الأكبر في فوز أكرم إمام أوغلو بالفوز برئاسة بلدية إسطنبول عام 2019.
ومع ذلك، فشل كليتشدار أوغلو بكل ذلك، ربما لسبب أهم هو أنه بينما كان يحاول كسب ود من وقف ضدهم بالأمس، أغفل داعميه وحلفاءه وتجاهل غضبهم، فمنح الأحزاب المحافظة عشرات المقاعد بالبرلمان، وأغضب حليفته منذ عام 2017 ميرال أكشنار رئيسة حزب الجيد.
لعب إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول دوراً كبيراً في هزيمة كليتشدار أوغلو، منذ أن رفع شعار "التغيير"
بعد فشل كليتشدار أوغلو في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية أيار/مايو 2023، لم يمتلك حزبه سوى رفع البطاقة الحمراء بوجهه بعد خسارات متتالية منذ 2010.
كما هو معلوم لعب إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول دوراً كبيراً في هزيمة كليتشدار أوغلو، منذ أن رفع شعار "التغيير"، واستطاع بذلك خلق نفوذ داخلي بالحزب لا يُستهان به، لدرجة أن الرئيس التالي للحزب لا بد أن يكون مقرّباً من إمام أوغلو.
من الذي يقود حزب الشعب الجمهوري الآن؟
هذا السؤال الأكثر تردداً في تركيا اليوم، من يقود حزب الشعب الجمهوري؟ هل هو أوزغور أوزال الذي رأس الحزب بعد كليتشدار أوغلو أواخر العام الماضي، أم إمام أوغلو الذي أوصل أوزال لقيادة الحزب؟
منذ وقت مبكر من تسلمه قيادة الحزب، ترددت عدة تسريبات حول انزعاج أوزال من نفوذ إمام أوغلو، ووجود العديد من الأشخاص القريبين من إمام أوغلو حوله، لا سيما مع وجود أشخاص ما يزالون قريبين من كليتشدار أوغلو أيضاً، ما يعني أن قيادة الحزب صارت مشاعاً لعدة تدخلات.
ثم جاءت الانتخابات المحلية/البلديات على أجندة الأحزاب، حيث ستُعقد في 31 آذار/مارس القادم، وفي ظل التحضير لها وترشيح أسماء لرئاسة البلديات الرئيسية والبلديات الصغيرة التابعة لها، برز نفوذ إمام أوغلو من خلال ترشيحه لأسماء قريبة منه والتدخل بتعيين بقية الأسماء، مع العلم أن هذا ليس من مجال سلطته أو نفوذه داخل الحزب.
هذا الأمر صاعد من التوتر الموجود أصلاً، وأبرز الخلاف نحو العلن، لا سيما بعد تصريح أسماء من الحزب حول أن إمام أوغلو بات "يستخدم سلطة غير موجودة، ويتسبب بضرر لمؤسسة الحزب.." وفق ما نقلت وسائل إعلام تركية.
رغم أن هناك مصلحة مشتركة بين إمام أوغلو وأوزال، وُجدت فجأة بعد خسارة انتخابات 2023، من أجل الإطاحة بكليتشدار أوغلو وشق طريق جديد نحو الوصول للسلطة، لكن يبدو أن إمام أوغلو يريد رئيساً دمية للحزب، عبر ابتزازه بالدعم الذي قدمه له ليرأس الحزب.
لكن أوزال في المقابل لا يبدو أنه مرتاحاً لهذا التحكّم الذي بات يقيده ويصغّر من حجمه كرئيس لأكبر أحزاب المعارضة، ولقد مرّرت أكشنار مراراً تلميحات بأن الشعب الجمهوري يُدار من سراج هانة بإسطنبول وليس من أنقرة، في إشارة إلى رئاسة بلدية إسطنبول وإمام أوغلو.
هذه الحالة التي يحاول أوزال وإمام أوغلو التستر عليها، لا بد أن تصل على هذا النحو إلى نقطة التصادم، وفي ذلك الوقت من الصعب ترميم الخلافات وستكون الفجوة أكثر متسعاً وفرصة الرجوع نحو الخلف ضئيلة.
ما مستقبل هذا الصراع؟
الانتخابات المحلية ستحدد إلى أن تسير الأمور بشكل كبير، من حيث فوز أو خسارة أكرم إمام أوغلو لبلدية إسطنبول، وهو أمر يراهن عليه بشدة لتحديد مستقبله في الحزب والسياسة كذلك.
منذ فوز إمام أوغلو في 2019 والزخم الذي اكتسبه من خلال وسطيته التي مكنته من كسب دعم مختلف الشرائح آنذاك، وطموح لا يعرف سقفاً، وليست قيادة حزب الشعب الجمهوري هي هدفه بكل حال، بل قصر "بيش تبه" أي المجمع الرئاسي بأنقرة.
وما زاد من وقود ذلك الطموح استطلاعات الرأي التي كانت تمنحه أصواتاً أكثر من كليتشدار أوغلو للترشح للانتخابات الرئاسية، وتصريحات قادة أحزاب على رأسهم ميرال أكشنار، حول أن ترشيح إمام أوغلو للرئاسة هو الخيار الوحيد للإطاحة بأردوغان.
في حال خسارة إمام أوغلو الانتخابات، فإن ذلك سيعني خسارة ذلك الطموح الذي إن ظل موجوداً فلن يجد له مصفقين وداعمين
الآن بعدما مضى ما مضى، فإن فوز إمام أوغلو مجدداً برئاسة بلدية إسطنبول سيفتح له الطريق دون منازع لبدء حملته منذ لحظة الفوز لخوض الانتخابات الرئاسية في 2028 والاستعداد لها منذ الآن.
لكن في المقابل، في حال خسارة إمام أوغلو الانتخابات، فإن ذلك سيعني خسارة ذلك الطموح الذي إن ظل موجوداً فلن يجد له مصفقين وداعمين، كما أن نفوذه داخل الحزب سيتراجع.
أما عن فرص فوز أو خسارة إمام أوغلو انتخابات آذار المقبل، فهذا ما يمكن أن نناقشه في المقال القادم.