يبدو نظام الأسد للمراقب الخارجي، متماسكاً، لا تصدعات في بنيانه. فها قد مرت "انتخابات" مجلس الشعب، بسلاسة، وحققت المُبتغى الرئيس منها، وهو تأكيد أن قدرة النظام على الحكم وتوزيع المنافع على أزلامه، في أفضل حالاتها.
كما أن "الإلحاح" التركي على التطبيع معه، برعاية روسية، يدعم تلك المشهدية الخارجية، التي توحي بأن البناء الداخلي لهذا النظام، سليم تماماً. لكن هذا المراقب الخارجي ذاته، لا بد أنه في حيرة من مظهر النظام المتماسك، بالتزامن مع تصفيات وعملية إبعاد، تطول رموزاً مقرّبة من رأس الهرم فيه.
عُرف نظام الأسد، تحديداً في عهد الأسد الابن، بسجلٍ حافلٍ من التصفيات الغامضة لمراكز قوى مقرّبة من رأس الهرم فيه. ورغم أن أياً من تلك التصفيات، لم تُكشف ملابساتها النهائية، حتى اليوم، -بدءاً بـ "انتحار" رئيس الوزراء التاريخي في عهد الأسد الأب، محمود الزعبي، مروراً بـ "انتحار" وزير الداخلية غازي كنعان، وليس انتهاءً بتصفية أعضاء "خلية الأزمة" عام 2012-، إلا أن تجاوز النظام لتلك التصفيات دون أن تؤثر على تماسكه وقدرته على الاستمرار، رغم مكانة بعض المستهدفين الكبيرة داخل منظومة الحكم الخاصة به، كان يعزّز دوماً الشبهات الأولية التي كانت ترتبط بأحداث كل تصفية، والتي كانت تشير إلى أن رأس هرم النظام، هو صاحب القرار في تنفيذها.
وفي سلسلة التصفيات الأخيرة، ومع قدرة النظام على إغراق الإعلام ووسائل التواصل بالشائعات، بصورة تتيح له التعتيم على حقيقة ما يجري، تنحو بعض الآراء إلى تبني نفس القراءة.
وهي أن بشار الأسد هو من يدير هذه التصفيات. حتى إبعاد زوجته عن المشهد، كان قراره، وفق هذه القراءة. بطبيعة الحال، تختلف الأسباب في كل حالة. لكن النظرية الرائجة بهذا الصدد، هي أن الأسد يضبط منظومة الحكم الخاصة به، والدائرين في فلكها، بما يخدم استحقاقات سياسية عربية وإقليمية، من المفترض أن ينخرط فيها. وبما يخدم قدرته على التفرّد بالقرار داخل منظومة الحكم، بما لا يسمح لأيٍ من مراكز القوى داخل هذه المنظومة، بأن يتجاوز توصيف "الأداة"، بالنسبة له. وتنسجم هذه القراءة مع المشهدية الخارجية للنظام، التي توحي للمراقب بأن النظام متماسك، وأن بشار الأسد يمسك كل الخيوط الأساسية داخله.
تبدو تصفية لونا الشبل حدثاً شاذاً. فلا طريقة التصفية، ولا عملية الإخراج لها، منسجمة مع أساليب النظام وطرقه، أو منسجمة حتى مع مصالحه.
لكن حادث تصفية لونا الشبل، مستشارة الأسد المقرّبة، بالذات، من بين سلسلة التصفيات الأخيرة، قد يكون الحادث الأكثر شذوذاً عما هو معتاد في أساليب النظام. ومن المستغرب للغاية، أن يكون قد تم بقرار من بشار الأسد، لا بسبب موقع الشبل داخل القصر الجمهوري لأكثر من عقد، بل بسبب الشكل الذي اتخذته عملية التصفية تلك. يُضاف إليها، تسميم يسار إبراهيم، مدير المكتب الاقتصادي في القصر. ولأن هذا الخبر الأخير، غير مؤكد حتى الآن، بشكل محسوم، يمكن لنا تجاهله، والوقوف فقط، عند حادث تصفية الشبل.
وخلافاً للتصفية الأخيرة لـ براء قاطرجي، التي يمكن تقبّل فكرة أن تكون بقرار من الأسد. وإبعاد زوجة الأسد، الذي يندرج أيضاً في نفس الخانة. تبدو تصفية لونا الشبل حدثاً شاذاً. فلا طريقة التصفية، ولا عملية الإخراج لها، منسجمة مع أساليب النظام وطرقه، أو منسجمة حتى مع مصالحه. فأين مصلحة الأسد في أن تموت مستشارته المقرّبة في حادث سير، يلهب الشائعات والنظريات حول مدى قدرته على حماية المقرّبين منه؟ فإن افترضنا أن بشار الأسد يريد تصفيتها، لسبب ما، فالطريقة التي تحفظ له مظهر القوة الذي لا بد أنه حريص على إظهاره، هي في أن يتم اتهامها بالفساد، ويتم إبعادها عن السلطة بقرار رسمي معلن، قبل أن "تنتحر" بشكل مفاجئ، كما تم إخراج عمليات التصفية السابقة. أما تصفيتها بحادث مدبّر، وهي على رأس عملها، والإعلان عن هذا الخبر رسمياً، يوحي بأن الأسد كان عاجزاً عن لجم لونا الشبل. أي أن الأخيرة كانت تعمل خارج الهامش الذي حدده لها. كما في حادثة تصفية رموز خلية الأزمة عام 2012، والذين كانوا يديرون اتصالات مع أطراف خارجية لتقرير مصير النظام في واحدة من أسوأ المراحل التي مر بها. فتمت تصفيتهم بطريقة تؤكد أن الأسد كان عاجزاً عن ضبطهم. لكن الفارق هائل، بين الضباط الكبار الذين تمت تصفيتهم في تفجير خلية الأزمة عام 2012، وبين لونا الشبل.
رأس الهرم هذا عاجز عن ضبط الصراع الداخلي بين مراكز القوى في منظومة حكمه، حتى خرج الأمر عن السيطرة، وأخذ مسار التصفيات تلك.
فالأخيرة، مجرد مستشارة، لا تملك موارد نفوذ وقوة مباشرة داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية. ولا يمكن أن يكون أخوها، الذي تمت الإشارة إليه، كافياً كي يكون مصدر كل هذه القوة، التي تجعل الأسد عاجزاً عن إبعاد الشبل عن السلطة، وأن يضطر لتصفيتها بشكل موارب. ما يعني أن تصفية الشبل، كان إما بقرار خارجي، أو نتيجة صراع داخل منظومة الحكم ذاتها. وفي الحالتين، يعني ذلك، أن المشهدية الخارجية للنظام المتماسك خادعة وغير دقيقة. فهو مخترق خارجياً، إلى الحد الذي يمكن معه تصفية إحدى مراكز القوى فيه، والمقرّبة من رأس هرمه، دون أن يستطيع الأخير فعل شيء، أو أن رأس الهرم هذا عاجز عن ضبط الصراع الداخلي بين مراكز القوى في منظومة حكمه، حتى خرج الأمر عن السيطرة، وأخذ مسار التصفيات تلك.
لا يعني ما سبق أن نظام الأسد، بالضرورة، في طريقه للانهيار. لكنه يعني أحد أمرين، إما أن النظام السوري ممسوك من قوى خارجية، فيما هو ضعيف للغاية من الداخل. أو أن الصراع الداخلي فيه، تطوّر إلى درجة، باتت معها القوة التي من المفترض أن تكون ممركزة في قبضة رأس هرم النظام، مشتتة بين مراكز قوى أخرى، أو ممركزة في قبضة أحد آخر، غير رأس هرم النظام. وهو ما يطرح تساؤلاً قد يصعب حسم الإجابة عليه في وقت قريب: من يحكم دمشق فعلاً؟