من دنغ إلى شي.. قراءة في زيارة "شي جين بينج" إلى أوروبا

بالرجوع إلى الوراء، في مايو 1975، في باريس، سافر نائب رئيس مجلس الدولة الصيني "دنغ شياو بينغ" إلى فرنسا في أول زيارة رسمية يقوم بها زعيم شيوعي صيني إلى دولة غربية. وبعد مرور تسعة وأربعين عاماً تقريباً، يسافر زعيم صيني مختلف تماماً، إنه الرئيس الصيني "شي جين بينج"، إلى "باريس" و"بلغراد" و"بودابست".

وتأتي زيارة "شي" في الفترة من 5 إلى 10 أيار/مايو، بعد عام واحد من بدء الاتحاد الأوروبي "إزالة المخاطر" والتخطيط لنسج استراتيجيات اقتصادية كُبرى لمواجهة تمدد الصين، باتجاه أوروبا، ودعمها للجانب الروسي في حرب أوكرانيا، وكذلك في أعقاب حالات التجسس الصيني المشتبه بها في أوروبا.

ستكون فرنسا هي المحطة الأولى لـ "شي جين بينج"، وقد وجّه الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" دعوة لرئيسة المفوضية الأوروبية "أورسولا فون دير لاين" للانضمام إلى اجتماع ثلاثي مع "شي جين بينج" في اليوم الأول بغية طرح نهج أوروبيّ موحد. وقد حذّر "ماكرون" خلال الأسبوع الماضي، من تفكك المشروع الأوروبي إذا لم يتم تعزيز أبعاده السياسية والأمنية.

لماذا صربيا والمجر؟

كانت صربيا والمجر تحتفظ بصيغة تعاون مع الصين يمكن أن يبني عليه الاتحاد الأوروبي اليوم.

على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، طورت صربيا شراكة استراتيجية شاملة مع الصين، استناداً إلى علاقة اقتصادية وسياسية وثيقة. وقد برزت الصين باعتبارها أكبر مزود فردي للاستثمار الأجنبي المباشر لصربيا، وثاني أكبر شريك تجاري لها بعد الاتحاد الأوروبي، وشريك رئيسي في تطوير البنية التحتية التي تشتد الحاجة إليها. وتوفر زيارة شي المرتقبة إلى صربيا فرصة لكلا الجانبين لعرض إنجازات تعاونهما على مدى العقد ونصف العقد الماضيين.

وفي المجر، يجتمع شي مع رئيس الوزراء المجري "فيكتور أوربان"، الذي أسهم بشكل وثيق في تنسيق سياسة المجر الخارجية مع الصين وروسيا في العقد الماضي. انضمت "بودابست" إلى مبادرة الحزام والطريق (BRI) في عام 2015، وكانت تنفذ طلبات "بكين" داخل الاتحاد الأوروبي بشأن سجل حقوق الإنسان في الصين وتايوان.

ومن المتوقع أن يناقش شي مع أوربان العديد من مشاريع البنية التحتية الجارية في مبادرة الحزام والطريق ويتوصل إلى اتفاقيات بشأن مشاريع جديدة. بالإضافة إلى نقاش اتفاقية التعاون الأمني الثنائية الموقّعة مؤخّرا، التي تسمح لضباط الشرطة الصينية بالعمل في المجر حيث تقطن الغالبية الصينية المهاجرة فيها. ومن المرجح أن يثير مسألة تسريع مشروع السكك الحديدية عالية السرعة بين بلغراد وبودابست خلال محادثاته في بلغراد وبودابست.

وفي فبراير/شباط، أعلنت اليونان أنها ستنضم إلى هذا المشروع وتوسعه ليشمل أثينا، مما يوازن انسحاب إيطاليا الأخير من مبادرة الحزام والطريق من خلال إنشاء طريق بديل للصادرات الصينية للوصول إلى قلب أوروبا من الجنوب.

وتأتي زيارة "شي" إلى أوروبا جزءا من الجهود التي تبذلها القيادة الصينية لعكس سياسة أوروبا المتشددة بشأن تقليص المخاطر من جانب الصين. تلعب أوروبا الوسطى والشرقية دورًا مهمًا في هذه المهمة.

يُبدي "ماكرون" استعداداً قويّاً لقيادة التوجهات السياسية الأوروبية تجاه أوكرانيا والأمن الأوروبي.

"ماكرون" في قيادة الجهود الأوروبية بالمفاوضات مع الصين

أوروبيًا، وبقيادة فرنسيّة، يبدو أن هناك رؤيةً جديدة أكثر وضوحاً بشأن حدود النظر إلى الصين باعتبارها شريكاً موثوقاً به. ويبدو أن الاتحاد الأوروبي قد عمل طوال السنوات السابقة على تعزيز أدوات الدفاع التجاري وأصبح أكثر نشاطاً في تصحيح التشوهات الاقتصادية والمنافسة.

وقد دفعت فرنسا بشكل خاص إلى إجراء تحقيق تجريه المفوضية في دعم السيارات الكهربائية الصينية. ومع مواجهة الصين الآن للانكماش الاقتصادي، فإن قضايا القدرة الفائضة الهيكلية ستكون بلا شك أحد المواضيع الرئيسة للزيارة.

ويُبدي "ماكرون" استعداداً قويّاً لقيادة التوجهات السياسية الأوروبية تجاه أوكرانيا والأمن الأوروبي، وفي مقدمة تلك التوجّهات ممارسة الضغط بقوّة ضد دعم الصين لروسيا.

تتحدى الصين الاتحاد الأوروبي في مجالي الأمن والاقتصاد.

اختيار الصين هذا التوقيت لزيارة أوروبا

تأتي زيارة "شي" في الوقت الذي تقترب فيه الانتخابات الأوروبية في يونيو/حزيران، وهذا ليس من قبيل الصدفة في الحسابات الجيوسياسية للصين. ويسعى "شي" إلى تخفيف التوترات التجارية، خاصة مع تكثيف أوروبا التدقيق فيما تسمّيه أوروبا "ممارسات الصين التجارية غير العادلة" في مختلف القطاعات. ومن الأمور المحورية في برنامج الزيارة، الحفاظ على النفوذ الصيني في أوروبا الوسطى والشرقية، التي نأت بنفسها عن التعاون مع موسكو بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.

وتشكل رحلة "شي" الدبلوماسية اليوم إلى أوروبا فصلاً مهماً في كتاب قواعد اللعبة الاستراتيجية الصينية، لتحقيق توازن دقيق بين الدفع بقوة بضروراتها الاقتصادية والحفاظ على العلاقات الدبلوماسية الودية، وربما حتى تعزيز نفوذها في أجزاء معينة من القارة العجوز.

تأتي زيارة "شي" إلى أوروبا في وقت بالغ الأهمية، إذ تتحدى الصين الاتحاد الأوروبي في مجالي الأمن والاقتصاد. وعلى الرغم من التواصل المتكرر من جانب الزعماء الأوروبيين، لم يتم إحراز أي تقدم حقيقي. وتضاعف "بكين" دعمها للحرب الروسية في أوكرانيا، وتهدد القدراتُ الصينيةُ الفائضة بإغراق السوق الأوروبية.

في الطرف الآخر، يأمل قادة الاتحاد الأوروبي من زيارة "شي جين بينج" حمل الإمبراطور على المشاركة في مؤتمر السلام في أوكرانيا، وخفض الدعم المادي لروسيا، وتوفير فرص اقتصادية أكبر للاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي يخشى فيه الأوروبيون من سلوك الزعيم الصيني سياسة استرضاء أطرافٍ من الأوروبيين وممارسة سياسة "فرّق تسد" من خلال تقديم عروض ثنائية.

يأمل "شي" أيضاً في الاستفادة بشكل أكبر من مظاهرات فرنسا السابقة التي أبدت إحجامها عن توسيع دور الناتو في آسيا والتعبير عن التضامن مع نهج "واشنطن" بشأن تايوان.

أهداف الصين من الزيارة

يقوم "شي" بزياراته الرسمية إلى فرنسا وصربيا والمجر لتحقيق ثلاثة أهداف: إصلاح العلاقات في أوروبا التي تضررت بسبب دعم الصين لحرب روسيا على أوكرانيا، وإضعاف أجندة الأمن الاقتصادي للاتحاد الأوروبي تجاه الصين، واستعراض علاقات بكين القوية مع شركائها الأقوياء صربيا والمجر.

ويرى بعض المراقبين أن "شي" سيعمل على دفع أوروبا لاتباع مسار مستقل بدلاً من اتباع خطا "واشنطن"، والتقليل من أهمية دعم الصين المستمر لآلة بوتين الحربية، واستثمار عظيم الاستفادة من المشاركة الاقتصادية مع الصين، خاصّة مع وجود تيار بدأ ينشأ في فرنسا يشعر بالقلق من التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة بشأن هذه القضية وغيرها.

وتهدف بكين، التي تدرك الاختلافات الواضحة بشكل متزايد داخل أوروبا، خاصّة ما يتعلّق بالدعم الصيني في الصناعات الرئيسية مثل السيارات الكهربائية، وهذا سيدقّ إسفيناً بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ويُضعف من قدرة الاتحاد على مكافحة الدعم في واردات السيارات الكهربائية الصينية.

وربما يأمل "شي" أيضاً في الاستفادة بشكل أكبر من مظاهرات فرنسا السابقة التي أبدت إحجامها عن توسيع دور الناتو في آسيا والتعبير عن التضامن مع نهج "واشنطن" بشأن تايوان.

وقد أشار "ماكرون" في السابق إلى أن فرنسا لا يمكنها "أن تتبع قيادة الولايات المتحدة بشكل أعمى" بشأن تايوان، ويجب عليها "تجنب الانجرار إلى أزمات" ليست من أزماتها.