ثرود البامية من الأطباق التي لا تقدمها المطاعم، وليست المليحية في السويداء كذلك، فالبامية التي يمكن أن تأكلها في مطعم، وكذلك ما يسمى "المنسف" يختلفان كلياً في الدلالة والهدف والمعنى وطريقة الإعداد والتقديم ومفهوم إكرام الضيف عما تأكله في منزل ما بدعوة من صديق/ة أو بمناسبة اجتماعية ما. يحملان دلالات رمزية مختلفة: الاجتماع والرغبة في التقديم للآخر، وطريقة التقديم، ويترافق الطبقان بطقوس خاصة تبدأ باختيار اللحمة ونوع البامية والجميد المكفول والسمن إضافة إلى الرز والبرغل والخبز والكبة المصنوعة في المنزل حيث تختفي أسفل الطبق وفقاً لعادات جبل العرب، وعادة ما تكون الموائد ختاماً لسهرة أو حفلة أو مناسبة ما فرح أو عزاء أو "لمة" مما يجمع السوريين.
الطبقان يمزجان بين مرحلتين من مراحل المجتمع السوري، ونمط حياتهما، كون المواد التي تدخل فيهما إشارة إلى مرحلتي الاقتصاد الزراعي والرعوي في سوريا والمواد التي تدخل في تكوينهما كذلك هي مما ينتجه الفلاح والبدوي، وعلى الرغم من كون من يأكلهما الآن قد تجاوز معظم ألوان الاقتصاد تلك؛ إلا أن نمط هذه الأنواع من الطعام، من الصعب تجاوز مذاقه الآخاذ حتى لو كنت تعيش في هولندا، رغم ظروف الحياة المعاصرة.
ومثلما تشكل مرقة البندورة الزورية "المخوثرة" أحد أسرار طبق البامية؛ فإن الجميد وجودته ومصدره أحد أسرار طبق المليحية، إضافة إلى نوع اللحم والسمن الذي يقفره صاحب الدعوة احتفاء بضيوفه.
لكنّ الطبقين يحملان دلالة قديمة مغرقة هي أننا نأكل مما ننتج، على الرغم من هشاشة هذه النظرية في ضوء الاقتصاد الحالي وتغير عادات الطعام والشراب والمدينة الحديثة، لكن الثورات تحتاج لاستعادة شيء من روحها ونبضها في شكل ما إلى مثل هذه الروح الفطرية حيث الجذور الطيبة للإنسان كما يشير عادة هواة الحنين إلى ذلك الماضي الجميل.
جاء تقديم المليحية في أحد أيام مظاهرات السويداء الحالية إشارة إلى أن الجوع قد يكون مدخلاً للحراك، لكنه ليس السبب الوحيد إذ الشعور بالكرامة هو أحد أهم الأسباب
وشكل الطبقان معاً اليوم في هذه الموجة الثورية فكرة الاستغناء عما يقدمه النظام من وعود خلبية لتحسين حياة الناس التي باتت تفضل العودة إلى سوريا إلى ما قبل النظام والبناء من جديد على أن تبقى أسيرة لوعود النظام الخلبية، بل إن المحافظات السورية فيهما مما يمكن أن يعتمدا عليه بكل المفاهيم القدرة على التنظيم والطعام والثروة، خاصة أن النظام السوري وقوى الأمر الواقع تعيد البلد إلى الوراء على العكس من كل مفاهيم الدول والحكومات حين تشكلت، إذ يفترض بها أن تكون حالة تنظيمية وخطوة إلى الأمام!
لذلك جاء تقديم المليحية في أحد أيام مظاهرات السويداء الحالية إشارة إلى أن الجوع قد يكون مدخلاً للحراك، لكنه ليس السبب الوحيد إذ الشعور بالكرامة هو أحد أهم الأسباب، وهو العمل الرئيس الذي اشتغل عليه النظام فترة طويلة: محاولة سلب الناس كراماتهم!
كيف تتجرأ مظاهرة وطنية تدعو لاستقلال سوريا وتخلصها من نير المستبد تقديم أحد جوانبها عبر حالة رمزية تتعلق بالطعام؟ وقد نظَّر مناضلو العالم التقليدي إلى فكرة أن الطعام حاجة نافلة وزائدة، وأن المناضل الحقيقي هو من يمكنه التخلي عن حاجاته الأساسية! بل إن سيدة متظاهرة تقول: أعيدوا لنا أولادنا لا نريدهم أن يغيبوا؟ بحسب الشوق مدخل للتظاهر؟ أو حبيبة متظاهرة تقول: حبيبي سافر خشية عسكرية مجانية، اشتقت إليه أريد أن أراه!
لا يمكن مقارنة البامية الطازجة بالمفرزة أو الميبسة أو المعلبة، وحين بدأ معمل كونسروة الميادين عام 1984 بخط تعليب البامية رفض كثيرون العمل به وقد شعروا بنوع من الاعتداء على تراثهم المقدس "البامية" وشخصياً أكثر ما أسعدني في هولندا أنني حين وصلت إليها وجدت البامية "الكمالية" في محال بيع الخضار "السورينامية" حيث تعيش جالية أكثر من مليون سورينامي إذ تقع تلك الدولة على خط الاستواء، وحين اعتذر الملك الهولندي ورئيس الوزراء مؤخرا عن تجارة العبيد التي كان السوريناميون أحد ضحاياها، شعرت أن جزءاً من الاعتذار هو اعتذار لوجودهم وثقافتهم وطعامهم!
أحد أسرار هذين الطبقين البامية والمليحية هي "اللمة" صحيح أن دلالات الطبقين تختلف كلياً، إذ إن طبق البامية يتفرد بكونه لمة أهل أو أصدقاء وليس الطبق المعتمد إبان المناسبات في ريف دير الزور بل ينوب عنه الثريد المكون من اللحم والخبز والرز أو البرغل في حين أن المليحية استبدت بكل المناسبات في حوران. وأحد أهم الدلالات في الطبقين هي الاحتفاء بالآخر، ثمة حالة من الحميمية وجرعة زائدة من الكياسة واللباقة والطيبة والكرم!
اللافتة التي رفعها متظاهرو السويداء (وقبلها تحية لبني معروف من دير الزور) فيما يتعلق بتحية ثرود البامية في دير الزور وكذلك رفع راية العشائر نوع من التحية الثورية، صحيح أن الفزعة العشائرية غالباً ما تكون أقرب إلى الهبة والنخوة والحماس إلا أنها كذلك نوع من البحث عن المشترك بين السوريين، المشترك غير العادي وغير المألوف والمكرّس، وكل جماعة سورية واعية وثورية يفترض أنها لا تريد أن تتطابق مع الجامعة الأخرى بالحراك أو آلياته، يكفيهما الاشتراك بالهدف والأحلام والتفاصيل الحميمة الصغيرة!
تشترك المنطقتان في كونهما تقعان على تخوم البادية السورية وآخر المناطق المأهولة من جهتين متباعدتين حيث تفرق بينهما نحو 600 كم. وكذلك معظم سكان المنطقتين جاؤوا قبل أكثر من ثلاثة قرون بحثاً عن آفاق جديدة للحياة، لذلك حفرت تلك الهجرات عميقاً في تاريخ المنطقتين وتمثلت خطاب تلك الآثار وتشربته، وهما يقولان: من يدري ربما أجدادنا سكنوا هنا أو هناك من فيليبس العربي في شهبا مروراً بتدمر وصولاً إلى دورا أوروبس وتل الحريري على الفرات.
وهذا التنوع السوري والاختلاف معتقداً وديناً وقيماً وعادات وتقاليد هو أهم مكون لهذه الـ سوريا، وقد يغدو أصعب مشكلة، فقد اعتدنا في العالم على إدارة المتشابهين، السؤال الوجودي السوري الصعب الذي يهرب منه كثيرون: كيف ندير المختلفين؟
هذا سؤال فلسفي صعب، في الغرب والشرق معاً، فكيف نوائم بين طبق دبس البندورة مع لبن الجميد، ومن الصعب أن يجتمعا على طاولة واحدة؛ فلذعة البندورة مختلفة كلياً عن لذعة الجميد، هذا إنتاج حيواني وتلك إنتاج نباتي، غير أن ما يجمعهما هو لحم خروف العواس المشهور الذي ينمو في البادية السورية بكل تقلباتها المناخية!
مشكلة سوريا الحالية والسابقة واللاحقة الرئيسية ومشكلة نظامها ومعارضتها وسلطات الأمر الواقع أنها تريد أن تجعل منا متشابهين تحت حجة تهديد إضعاف الشعور القومي، والوحدة الوطنية، وإلغاء الرايات المحلية، لذل كان من الطبيعي أن يحاول الجولاني مؤخراً اللقاء بوجهاء الدروز ومحاولة ضمهم معتقداتياً إلى منهجه وهم ليسوا كذلك، ولا تثريب عليهم في ذلك، وهم باختلافهم عن كثيرين مصدر تنوع لسوريا وليس إضعافاً لها!
قوة سوريا المعطلة والمؤجلة تكمن في اختلافاتنا الثقافية والعرقية والدينية والفكرية، وفي الوقت نفسه وحدة الهدف والمصير ولعل هذا ما قصدَته مظاهرات السويداء في كون الموحدين الدروز يوحدون السوريين وطنياً كجزء من وحدات مرحلية يحتاجها السوريون.
الحالة الوحيدة التي كان يهتم بها النظام السياسي في سوريا بالاختلاف هو الاختلاف الذي يفرق ويثير الفتنة لذلك ما انفك من اللعب على عامل الاختلاف بين بدو السويداء والدروز
حاول حافظ الأسد أن يجعل من السوريين لوناً واحداً، انطلاقاً من بدلة السفاري ولباس طلائع البعث واللباس الجامعي الذي كانت تقف كتائب على أبواب الجامعات لتجبرنا على أن نلبسه، بعد أن أجبرونا على شرائه مع الرسوم الجامعية لتذهب الأموال إلى شركة البيع التي يديرها أحد طغمته الحاكمة، وها هي روحه اليوم لا تنال إلا اللعنات لأنه حاول أن يقضي على تنوعنا واختلافنا وأن يجعلنا حزباً واحداً ويداً واحدة مرفوعة لتقول نعم فحسب!.
الحالة الوحيدة التي كان يهتم بها النظام السياسي في سوريا بالاختلاف هو الاختلاف الذي يفرق ويثير الفتنة لذلك ما انفك من اللعب على عامل الاختلاف بين بدو السويداء والدروز بصفتها يمثلان حالة اختلاف اقتصادي، هذه اقتصاد فلاحي ومدني وزراعي وهذا اقتصاد رعوي، فالمشكلة ليست أن أغنام البدو رعي في حقول الدروز بل المشكلة أن كفايات الاقتصاد لم تقم بها الدولة التي قد استقالت عن دورها! أما على المستوى الاجتماعي فنجد احتراماً بين الطرفين ومراعاة للاختلاف بينهما!
أحد أفضال ثورة 2011 أنها كشفت أنه في سوريا الكبة الحلبية والأوزي الدمشقي، هناك أطباق وإرادات وألوان مختلفة، هناك سوريون انشقوا عن النظام من كل الجهات.
وها هم المختلفون السوريون يتعرفون إلى بعضهم لأول مرة ويكتشفون بعضهم، وقد وجدوا أن إدارة الاختلاف والمختلفين أصعب بكثير من إدارة المتفقين حيث ضرورة المرونة والتخلي عن نصف الأحلام للاقتراب من الآخر مع محافظتي على خصوصيتي ورايتي ما دمتُ قد اخترت أو عشت معه في جغرافية واحدة تحت نطاق دولة واحدة!
في منطقة الفرات يضرب المثل بالصبية الجميلة بالقول: كأنها درزية!
وقد حدثني جدي عن جده يوماً أنه إبان تنقله مع الأغنام بهدف البحث عن المرعى، قد أحب صبية درزية، لكن الظروف أبعدتهم، وبعد سنوات عاد إلى تلك الديار شوقاً بمحاذاة الحدود السورية من جهة العراق وصولاً إلى الحدود الأردنية، إلى أن وصل إلى ديار حبيبته، لكنه وجد أن قريتها "القرعة" غدت مهجورة وقد سأل أهل "امتان وشنيرة" لكنه لم يجد من يعلم عنهم خبراً لذلك قال:
عتابا ما تسليني بعدّهم
ونوم العين حرمته بعدّهم!
واستجابة للوحة ثرود البامية التي رفعها أهل السويداء، كتب عاشق فراتي معاصر لحبيبته:
إليكِ يا من… سأكتُبك بالياسمين، أعجنُ جبالَ خوفِك بفرات محبَّتي وأقول لك: أولُ الغيث أهيلُ عليك الحبَّ! أهيلُ عليك الماء، لأسبح في نهر باديتنا السورية، أعانق صخور جبال خوفك ونبني معاً ذلك النداء الطويل: حرية!