أحدث الحراك الشعبي في السويداء منذ انطلاقته في منتصف آب من عام 2023 يقظة في الوعي السوري، إذ حفّز الأذهان مجدداً لاستحضار ثقافة التظاهر والاحتجاج السلمي، وذلك بعد سنوات طويلة من العنف الذي اجتاح سوريا من جميع أطرافها.
ومع تبلور مطالب الحراك وسعيه نحو التنظيم والتأطير، بدأت نواة الأمل ترتسم في نفوس العديد من السوريين الذين تطلّعوا إلى انتشار موجة الحراك لتكون محاكاة أخرى للمظاهرات التي بدأت في درعا في آذار 2011، ثم انطلقت إلى سائر المدن والبلدات السورية. إلا أن المقومات الفعلية لهذا الرهان لم تكن توازي التطلعات، نظراً للهيمنة الأمنية التي تتولاها قوات نظام الأسد وميليشيات إيران في سائر المدن والبلدات، وخاصة في دمشق وريفها وحمص، فضلاً عن السطوة الأمنية التي تفرضها قوات النظام في مدن الساحل السوري. وعلى الرغم من ذلك، حافظ حراك السويداء على ديمومته، أملاً في أن تتسع دوائر الاحتجاج إلى مناطق أخرى في سوريا.
أصبح الشأن السوري المحلي ثانوياً من حيث الاهتمام والمتابعة. بل ربما انساقت حاضنة الحراك نفسها مع التيار العاصف للأحداث.
ولكن ما حدث كان خارجاً عن إرادة الجميع، وأعني عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين أول (أكتوبر) 2023، أي بعد انطلاق حراك السويداء بأقل من شهرين. وقد استطاعت الحرب التي شنها الكيان الصهيوني على غزة أن تستأثر بقوة على اهتمام الرأي العام، بما في ذلك جمهور الثورة من السوريين أنفسهم، الذين بات لسان حالهم يستحضر ما قاله الشاعر الأخطل الصغير (بشارة الخوري): "يا فلسطين التي كِدنا لما كابدتْه من أسى، ننسى أسانا". وأصبحت حرب غزة هي مادة الإعلام الأولى، مما أزاح سواها من أحداث.
ونظراً للارتباطات القائمة بين حركة حماس ومحور إيران، حاولت الأذرع الإيرانية، وتحديداً حزب الله اللبناني، مشاغلة الرأي العام السوري من خلال إحياء فكرة المقاومة ومواجهة إسرائيل، في مسعى واضح لتغطية جرائمها المروعة بحق السوريين على مدى أكثر من عقد. ولئن لم يؤد هذا المسعى إلى تحوّل نوعي في موقف السوريين من ميليشيات إيران، إلا أنه أحدث ثغرة جزئية في موقف البعض الذين نما وعيهم وتشكّلت مفاهيمهم السياسية على استلهام الحدث الفلسطيني عبر خمسة وسبعين عاماً مضت، وربما بات من العسير على هؤلاء التفكير في أي قضية أخرى دون ربطها المباشر بالقضية الفلسطينية.
مثابرة سورية في استحضار الأمل
في بداية شهر تموز من العام الجاري، انطلقت موجة جديدة من الحراك الشعبي في الشمال السوري، أُطلق عليها "اعتصام الكرامة"، وذلك عقب الخطوات التركية الساعية للتطبيع مع نظام الأسد، وأيضاً بالتزامن مع موجة الاعتداءات العنصرية التي استهدفت اللاجئين السوريين في مدينة قيصري التركية. إلا أن حركة التظاهر في الشمال لم تقف عند حدود مناسبة انطلاقتها، بل سعت لأن تتحوّل إلى انطلاقة جديدة للثورة. وعلى الرغم من كثرة التحديات التي تواجه تلك الحركة، إلا أنها مضت شيئاً فشيئاً نحو التنظيم والتأطير، كما حاولت إقامة جسور مع انتفاضة السويداء بهدف توحيد الحراك السوري الجديد.
ولكن ما حدث لحراك السويداء من خفوت في الاهتمام العام والعزوف الإعلامي قد واجه أيضاً حراك الشمال، وهذه المرة بسبب الحرب الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية في الثاني من تشرين أول (أكتوبر) الجاري. فقد باتت حكومة نتنياهو، بعد أن خرجت بالمعركة إلى خارج حدود غزة، تتطلّع إلى الإجهاز على حزب الله الذي يتخذ من الضاحية الجنوبية معقلاً له، بالتوازي مع حشود إسرائيلية انطلاقاً من الجولان، ما يشير إلى عملية إسرائيلية مرتقبة لاستهداف فلول حزب الله في سوريا.
أمام هذه الأحداث، أصبح الشأن السوري المحلي ثانوياً من حيث الاهتمام والمتابعة. بل ربما انساقت حاضنة الحراك نفسها مع التيار العاصف للأحداث، فضلاً عن أن هذا الانجراف تعزز باستهداف الصهاينة ليحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، ما أدى إلى اتساع الثغرة التي أحدثتها حرب غزة في موقف جمهور الثورة. وهكذا بات الشغل الشاغل لأنصار الثورة هو الاحتراب الإعلامي والسيولة الشديدة في ردّات الفعل على وسائل التواصل الاجتماعي، التي غالباً ما تسهم في تأجيج المواقف والقضايا نتيجة غياب الموضوعية والتفكير العقلاني. وفي موازاة ذلك، حدث انزياح شبه تام عن التفكير في أي مبادرة محلية لسيرورة الحدث السوري.
ما هو واضح أن الحدث السوري يمكن اختطافه بسهولة، لأسباب لا صلة لها بمعايير عدالة قضايا الشعوب ومشروعيتها، بقدر ما تتصل بطبيعة الوعي العام وهيمنة المقاربات التقليدية لقضايانا المعاصرة.
خطل المقاربات يؤدي إلى تشويه القضايا العادلة
ما هو واضح أن الحدث السوري يمكن اختطافه بسهولة، لأسباب لا صلة لها بمعايير عدالة قضايا الشعوب ومشروعيتها، بقدر ما تتصل بطبيعة الوعي العام وهيمنة المقاربات التقليدية لقضايانا المعاصرة. والأهم من ذلك هو افتقار الحالة السورية للحامل السياسي الوطني أو المحلي وفشله في الدفاع عن نصاعة وعدالة القضية السورية وأحقيتها بالاهتمام. بل لعلّ جوهر المشكلة يكمن في تغييب الأبعاد الإنسانية للقضايا العادلة والاستسلام للنوازع الإيديولوجية التي ما تزال الأقدر على صياغة الوعي وتوجيه المواقف. فالمنظور الإنساني المجرد يؤكد بيسر ووضوح شديدين أن قضية الإنسان الفلسطيني الذي يواجه الصلف الصهيوني، وقضية الإنسان السوري الذي يواجه نهج الإبادة الأسدي، هي قضية واحدة في جوهرها. ولا يختلف عنهما من يواجه إيران وأذرعها التي لا ترى مجدها إلا عندما تشيده على ركام أجسادنا وأنقاض بلادنا.
من هذا المنظور، يمكن القول: إذا كانت مقاومة الطغيان بشتى أشكاله، سواءٌ بنسخته الصهيونية أو الأسدية أو الإيرانية، شأناً مشروعاً وحقاً تحفظه جميع الشرائع والقوانين والأعراف، فإنه من غير المشروع، بل لعله من التناقض الأخلاقي الفاضح، أن ننتظر الخلاص وزوال الظلم من أحد تلك الأطراف الغاشمة. إذ يمكن القول بيقين كامل إن الصهاينة قادرون على قتل خصومهم من الطغاة، فقد قتلوا معظم قيادات حزب الله ولعلهم قادرون على قتل طغاة غيرهم، غير مأسوف عليهم. ولكنهم في الوقت ذاته يقتلون الشعوب ويزهقون أرواح الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، ولا يترددون في ارتكاب أشنع أشكال الإجرام. فهل البراعة في ارتكاب الجريمة تجعل من المجرم مصدراً للعدالة والحق؟
ما أزال من الموقنين بشدة بضرورة الاستفادة من التغيّرات في موازين القوى والسياسات، واستثمار المتغيرات في المواقف الدولية التي تحول مصالحها دون الثبات الدائم. ولكن الاكتفاء بهذه المراهنة لن يجعل منا أكثر من متفرجين ننتظر جلاء النتائج التي تُفرض علينا مهما كانت طبيعتها. لكن يقيني أكثر بأن تحاشي الوقوع في دور المُتفرّج (المنفعل) فحسب، يوجب الانتقال إلى دور اللاعب (الفاعل) أيضاً، بما تملك من أوراق، وعلى ضعفها وندرة تأثيرها. ذلك خيرٌ من استمراء التفرج.