لم تألف المجتمعات العربية فكرة أن يكون الزوجان شركاء فيما يجنونه من مال – ثابت أو منقول لا فرق – خلال حياتهما الزوجية المشتركة وربما كان الأمر مرتبطا بالمنظور الفقهي لاستقلال الذمة المالية لكل منهما، وبالتالي يرى غالبية الفقهاء أن فكرة أن يكون الزوجين شركاء فيما يجنيانه أو يجنيه الرجل وحده من أموال بعد ارتباطهما برباط الزوجية فيه تجاوز على فردانية تلك الذمة المالية واستقلالها، وربما أيضا فيه افتئات على حقوق الرجل فيما يجنيه من أموال بعد زواجه باعتبارها ناتجاً مجسّداً عن كدّه وعمله فضلا عن كونه هو المكلف فقهيا بالإنفاق على بيته وأسرته حتى لو كانت زوجته لديها سعة من المال والموارد.
وهذه الرؤية لها علاقة ليس فقط بمبدأ استقلال الذمم المالية لكلا الزوجين وإنما تتأسس أيضا على ما يناط بالرجل من تكاليف ومسؤوليات تجعله يحمل كاهل وعبء التأسيس للحياة الزوجية وديمومتها من مهر وتأمين مسكن لائق وتأثيثه والإنفاق على الزوجة أكانت عاملة أم ربة منزل في مختلف احتياجاتها والإنفاق على كامل احتياجات الأسرة الأساسية التعليمية والصحية وتغطية نفقات الاحتياجات اليومية الضرورية لاستمرار العيش وفق شروط العصر ولو بحدودها الدنيا التي تراعي شروط احترام آدمية الإنسان.. وبالتالي يصبح القول – وفق تلك الرؤية - بحق المرأة عند
الانفصال أو الوفاة في اقتسام الموارد المتأتية خلال الحياة الزوجية مناصفة بين الزوجين، ظلما للرجل أكثر مما هو إنصاف للمرأة.
المرأة غير مكلفة أصلا بالأعمال المنزلية الاعتيادية ولا حتى بإرضاع أطفالها، وإن فعلت ذلك يحق لها تقاضي أجرا لقاءه
لكن هذه الرؤية أيضا لا تأخذ بالاعتبار أن المرأة أيضا عملت طويلا في الحقول والمزارع والمصانع وانخرطت في سوق العمل وصار لها مورد مالي غالبا لا تختص به لنفسها بل يضاف إلى موارد الأسرة وينفق فيما يتم إنفاقه على هذه الأسرة سواء في تأمين لوازم حياتها وسد احتياجاتها اليومية المتزايدة أو في سداد قيمة المسكن الذي يلم شمل هذه الأسرة ، كما تتجنب المرور على ما تقوم به المرأة من أعباء منزلية، ناهيك عن أعمال ماتزال تقوم بها إلى الآن في الكثير من الأرياف كالعمل في الحقل زراعة وحصادا ورعاية ماشية وغيرها، وهي كلها ليست مكلفة بها أصلا ولا تلزمها بها أي شريعة أو شرع، وإن كانت الأعراف كرستها كجزء من وظيفتها الأسرية أو المنزلية.
وقد يصدم البعض القول إن المرأة غير مكلفة أصلا بالأعمال المنزلية الاعتيادية ولا حتى بإرضاع أطفالها، وإن فعلت ذلك يحق لها تقاضي أجرا لقاءه(!) وهذا ما يقر به الكثير من المجتهدين والفقهاء في الشريعة.
وبالتالي فإن القول بحق المرأة في شراكة زوجها فيما يكتسبانه من أموال بعد زواجهما، يكتسب وجاهة توجب إعادة النظر في بناء مفهوم جديد للشراكة الزوجية يأخذ في الاعتبار هذه المعطيات ليعيد صياغة قوانين الحياة الزوجية والعلاقات المالية للزوجين مجددا خصوصا أن وقائع حياتنا تطرح لنا يوميا عشرات المشكلات والصعوبات التي تواجهها المرأة عند انفصالها عن زوجها ربما بعد رحلة عمر ليست قصيرة لتجد يديها خالية الوفاض وقد تبددت سنين عمرها أو بعضها وتبددت مواردها المالية التي أسهمت فيها بحياة زوجية استحالت عليها الديمومة فيما بعد.
والحقيقة أن هذا المطلب يعتبر من أهم المطالب التي نادت بها بعض الحركات النسوية والمؤمنين بالحق في المساواة – وهم محقون في ذلك - في وجوب قسمة الثروة المالية - المتكونة حال الحياة الزوجية - بعد الطلاق أو الوفاة، باعتباره مطلبا يرفع نير الظلم والإجحاف عن كاهل النساء، ويضمن لهن عوضا عما قدمنه من مال أو جهد وعمل - سواء خارج البيت أم داخله - ساهم في تكوين تلك الثروة.
وهذا المطلب كان دائما يواجه على أنه عملية استنساخ لقوانين وضعية غربية (كما هو الحال في الدول الاسكندنافية وفي فرنسا وبلجيكا والأرجنتين والعديد من الدول الأخرى) لا تتواءم مع مفاهيم وعادات مجتمعاتنا ولا ديننا(!) وهو في الحقيقة زعم مضلل لأن هذا المطلب تحديدا له أصل وأساس في مبادئ الشريعة والتراث الفقهي - وتأخذ به العديد من التشريعات الوضعية في المغرب العربي - الذي قرر إمكانية الحكم بما اصطلح على تسميته بحق الكدّ والسعاية للزوجة عند الطلاق أو الوفاة وقبل قسمة التركة.
لعل أول من اجتهد وأفتى في مسألة "الكدّ والسعاية" هو الفقيه المالكي (أحمد بن عرضون) في القرن العاشر الهجري وهو أول من قال بحق الزوجة بنصف مال الأسرة المكتسب بعد انعقاد الزوجية عند وقوع الطلاق أو الوفاة وقبل اقتسام التركة استنادا لكدّها وسعايتها في تثمير هذا المال. (1)
والحقيقة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ربما كان سباقا في ذلك عندما قضى لحبيبة بنت زريق بنصف مال زوجها المتوفى وبنصيبها من الإرث من نصفه الثاني إذ كانت حبيبة نسّاجة وطرّازة وكان زوجها عمر بن الحارث يتاجر فيما تنتجه فاكتسبوا من ذلك مالا وفيرا ، ولما مات الزوج وضع أهلوه يدهم على ماله فنازعتهم حبيبة في ذلك واختصموا أمام عمر بن الخطاب فقضى لها بنصف المال، ثم بنصيبها من النصف الثاني لكونه تركة وهي منه وارثة. (2)
وحتى تكتمل الصورة لابد أن نفهم المقصود بحق الكدّ والسعاية وما هو نطاق تطبيقهما وكيف يمكن لنا إدماجه في قوانيننا وتأسيس رؤية مغايرة للحقوق المالية للمرأة والنظام المالي للأسرة مع الحفاظ على مفهوم استقلال الذمم المالية للزوجين.
ويمكننا في هذا المقام تعريف الكدّ والسعاية على أنه بذل الجهد في العمل والسعي وراء الرزق..
إقرار مبدأ الشراكة المالية بين الزوجين فيما يكتسبانه من مال بعد زواجهما يعتبر من أهم مبادئ المساواة
أما بالمعنى الاصطلاحي والحقوقي فقد عرفه "الحسين الملكي" - وهو حقوقي ومحام مغربي مخضرم وصاحب نظرية "الكدّ والسعاية" المتوفى في الرباط عام 2018 – على أنه: ((حق المرأة في الثروة التي تنشئها وتكونها مع زوجها خلال فترة الحياة الزوجية، وهذا الحق يضمن للزوجة إذا انتهت العلاقة الزوجية بينها وبين زوجها إما بالطلاق أو الوفاة بأن يتم تحديد وحساب مجموع الثروة التي تم تكوينها خلال فترة الحياة الزوجية فتحصل على جزء منها مقابل ما بذلته من مجهودات مادية ومعنوية إلى جانب زوجها (((3)
وبالتالي فإن إقرار مبدأ الشراكة المالية بين الزوجين فيما يكتسبانه من مال بعد زواجهما يعتبر من أهم مبادئ المساواة، بالنظر إلى أن المرأة تشارك زوجها في جميع أعباء الحياة وتقاسمه المشقة والجهد لتحسين شروط حياتهما والارتقاء بها سواء أكانت المرأة عاملة داخل بيتها أو خارجه لأن عملها داخل بيتها دون أجر هو مشاركة منها في تلك المشقة وتثمير للمال المكتسب من قبل الرجل، وكذلك يكون الأمر أكثر توكيدا وأولى إن كانت المرأة عاملة خارج بيتها.. وهذا جزء مما يجب الاشتغال عليه مستقبلا في إعادة صياغة المنظومة القانونية المتعلقة بالأسرة في بلدنا إلى جانب الكثير من القضايا الأخرى التي ليست محل نقاشنا لها الآن في هذا المقال.
ولكن من المهم في هذا السياق أيضا أن نعرف النطاق الذي يجب أن يشمله هذا الحق والذي أعتقد أنه يقتصر على ما يجنيه الزوجان من مال عيني أو نقدي خلال حياتهما الزوجية المشتركة فحسب وأن لا يمتد أثره إلى ما كان الزوج يملكه قبل زواجه لأنه حق خالص له كوّنه بجهده الفردي ولا دور فيه وفي مردوده للزوجة فلا يجوز أن تقاسمه فيه أو في ما يغلّه.. وكذلك ما يؤول له إرثا حتى بعد انعقاد الزوجية فهو أيضا حق خالص له لا يحق للشريك المنازعة بشأنه أو المشاركة فيه لأنه مال لم يتم اكتسابه بكدّ ومشقة مشتركة بل آل لشخصه بصفته وارثا.
وما ينطبق هنا على المال المكتسب بعد الزوجية – الذي غالبا ما يكون مسجلا باسم الزوج كما جرت عليه العادات في مجتمعاتنا – ينطبق تماما على المال المكتسب بعد الزوجية إن كان مسجلا باسم الزوجة أو مدخرا في حساب مصرفي باسمها، ويستثنى من ذلك ما كان لها قبل زواجها وما آل لها إرثا من أهلها ولو بعد زواجها أيضا.
بمعنى أن يطبق حق "الكدّ والسعاية" على كلا الزوجين ولا يكون حقا تتفرد به المرأة وحدها.
وحسما لأي لبس أو تداخل وتسهيلا للإجراءات يمكن أن يتم تسجيل الأموال المكتسبة بعد الزواج باسم الزوجين مناصفة إن كانت عقارا، أما إن كانت مالا مدخرا في مصرف فيمكن فتح حساب مشترك بينهما لا يستطيع أي منهما سحب أكثر من نصفه عند الاقتضاء، والإبقاء على الأموال الشخصية لكل منهما المكتسبة قبل الزواج أو التي تؤول لأي منهما إرثا بعد الزواج باسم صاحبها فحسب.
وأخيرا وفي سياق حديثنا عن نطاق تطبيق حق (الكدّ والسعاية) أعتقد أنه من المنصف أن يسقط حق المطالبة بهذا الحق إن كان الطلاق تم بسبب ثبوت الخيانة الزوجية فيحرم مرتكب الخيانة من فرصة اقتسام الأموال بسبب هذا الطلاق، وكذلك من يتم طلاقه بسبب شروعه بارتكاب جريمة القتل لشريكه، ويحرم منه أيضا من يرتكب جريمة قتل الشريك بالزوجية كما يحرم من إرث ضحيته.
إننا كسوريين ونحن على أعتاب عملية تغيير كبرى في أنماط عيشنا وتفكيرنا وإدارة شؤون حياتنا على مختلف المستويات تفرضها مقتضيات التحول الديمقراطي والانتقال إلى دولة القانون، أراها فرصة مهمة سانحة لنا لنجري مراجعات شاملة في الكثير من قضايانا الفقهية، الذي لا يمكننا أن ننكر دوره في البناء الثقافي والمعرفي لمجتمعاتنا ولا يجوز لنا أن نتركه نهبا للمتطرفين يوظفونه في قهرنا ومصادرة حرياتنا ويسبغون عليه قداسة الرسالة الإلهية للبشر بغير حق.. وكذلك إجراء مراجعات شاملة لقوانيننا بوصفها الهياكل الأساسية التي تبنى بها الدول الحديثة وتؤسس لمفهوم دولة القانون.
المصادر :
(1) موقع ( مرايانا ) الكد والسعاية .. ابن عرضون الفقيه المغربي الذي أفتى بحماية حقوق النساء وتحصينها ضد العنف الاقتصادي . الكاتب علي بنهرار تاريخ 5\2\2021 .
(2) الموقع الر سمي لجريدة المحجة العدد 252 تاريخ 17\3\2006 .
(3) المصدر السابق.