تطفو المفاوضات غير المباشرة بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإيرانية وبينهما الترويكا الأوروبية بالإضافة إلى روسيا والصين على ما سواها من أخبار، إذ إن النهايات العصبية لأي اتفاق محتمل يمكن أن تمتد لأعضاء الجسد الدولي مع امتدادها الإقليمي النابع من هواجس إسقاط الاتفاق المراد إحيائه للبرنامج الصاروخي والسلوك الإيراني المزعزعين لأمن المنطقة، وفي ظل السياسة الخارجية الإيرانية القائمة على الحامل الإيديولوجي وعقيدة تصدير الثورة، إضافة إلى محو الشيطان الأصغر في أقل من ثماني دقائق بحسب آخر إصدارات المسؤولين الإيرانيين.
وصل ملالي طهران إلى طريق مسدود، وبمعزل عن الوضع الداخلي الإيراني الذي يتطلب أحد المستحيلين، إبادة الشعب جملةً، أو حل مشكلاته جملة، فإن أبرز مؤشرات انسداد الطريق أمام ملالي طهران، يأتي من العاصمة النمساوية وما يجري فيها من مفاوضات تهدف لإحياء الاتفاق النووي لعام 2015.
استبق النائب السياسي لوزير الخارجية الإيرانية، علي باقري كني موعد جولة المفاوضات المعلن عنها بالقيام بجولة أوروبية، بهدف تقوية موقف طهران على طاولة التفاوض، على الطرف المقابل أجرى المبعوث الأميركي الخاص بإيران، روبرت مالي عدة جولات شملت، دولاً أوروبية وروسيا إضافة إلى دول في المنطقة، تم الحديث خلالها عن اتفاق مؤقت ترغب واشنطن أن يحصل على موافقة طهران ومباركة دول المنطقة، وهو ما لم تجده في تل أبيب ولا يبدو أنها ستجده في فيينا من جانب إيران.
اتفاق مؤقت ترغب واشنطن أن يحصل على موافقة طهران ومباركة دول المنطقة، وهو ما لم تجده في تل أبيب
إذ درج القادة الروحيون الحماسيون، الذين اعتلوا السلطة التنفيذية في طهران على التصريح أن الغاية من المفاوضات ينحصر في رفع العقوبات الظالمة وغير القانونية المفروضة على بلادهم، إذ صرّح وزير الخارجية الإيراني، أمير حسين عبداللهيان "أنه لا حاجة للمفاوضات" وينحصر الأمر" بإصدار أمر تنفيذي يقضي برفع العقوبات"، كذلك صّرح "علي باقري" كبير المفاوضين الإيرانيين بأن الهدف من المفاوضات هو رفع العقوبات وعودة واشنطن إلى الاتفاق ، غير أن الاتفاق أصبح من الماضي، ويعزز هذا القول الطرح الأميركي لاتفاق مؤقت يرمز له "بالأقل مقابل الأقل"، كجسر للعبور إلى اتفاق أطول وأقوى، أو لوضع الخيارات الأخرى التي باتت تطفو على السطح.
فبالرغم من الرغبة التي يبديها الطرفان بالوصول إلى تسوية تنهي الأزمة النووية، فإن الخلافات تتراكم والشروط تتضاعف لدى الطرفين مما أخرج الحديث عن خيارات أخرى للمرحلة اللاحقة، بعد فترة الثبات المزمن على النهج الدبلوماسي من قبل مسؤولي واشنطن.
تختلف الظروف الداخلية والخارجية لكل من طهران وواشنطن عما كان عليه الحال عام 2013، العام الذي تم التوصل فيه إلى اتفاق إطار شكّل سلم الوصول إلى اتفاق 2015، لذا فإن الحديث عن اتفاق مؤقت يخفف حدة التفاوض تحت الضغط المرتفع بارتفاع نسب التخصيب هو طرح سطحي، لا سيما مع التصريحات الإيرانية الهادفة لمراكمة أوراق الضغط في هذا الجانب، وتتزايد الحدة مع الفجوة الواسعة للمصادر، مما يرفع من حائط عدم الثقة المضروب بين الجانبين منذ أربعة عقود، فحسب صحيفة الوفاق الإيرانية "لم يكن الطلب الإيراني لتعليق المفاوضات بعد الجولة السادسة ناجم عن عملية انتقال السلطة وإنما بهدف التقدم في النشاطات النووية وتوظيفها كورقة ضغط في المفاوضات"، إذ تنظر طهران إلى المفاوضات باعتبارها أداة وظيفية وليس أداة للحل.
الحديث عن اتفاق مؤقت يخفف حدة التفاوض تحت الضغط المرتفع بارتفاع نسب التخصيب هو طرح سطحي.. إذ تنظر طهران إلى المفاوضات باعتبارها أداة وظيفية وليس أداة للحل
في هذه السياق تمارس طهران ضغوطها من خلال عرقلة التوصل إلى اتفاق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مما يؤدي إلى عماها على حد تعبير رئيسها رفائيل غروسي، وبالتالي ترتفع من أسهم صدقيّة مسؤوليها عند التصريح عن تطور برنامجها النووي، وهي تصريحات لا تختلف في شيء عن تصريحات القوميين العرب في ستينيات القرن الماضي، وصراخهم عن رمي اليهود في البحر، وكانت النتيجة نكبة صغّروها وسموها نكسة وهو ما تسير إليه طهران بقدميها.
يسعى الحليف الإسرائيلي للخروج عن الطوق الأميركي بأي اتفاق قد تعقده الأخيرة، إذ صرّح نفتالي بينيت، رئيس الوزراء الإسرائيلي "أن تل أبيب ليست طرفاً في أي اتفاق، ولن تكون ملزمة فيه"، وأجرى وزير الخارجية، يائير لابيد زيارة إلى فرنسا وبريطانيا تم التوصل مع الأخيرة لاتفاق أمني لمواجهة إيران، بالإضافة إلى التزام لندن بعدم رفع العقوبات عن طهران، في رسالة موجهة لواشنطن ومن بعدها طهران، في مؤشر لبروز مواقف أوروبية تعلو الموقف الأميركي.
ترى طهران في اتفاق 2015 اعترافاً دولياً بمشروعها النووي، انتقلت بموجبه من مجال الأبحاث إلى مجال الإنتاج، ونتيجة لقصور الاتفاق على الشق النووي دون التطرق للجانب الصاروخي تعتبر طهران أن لا مجال لإدراج المشروع الصاروخي كبند تفاوضي، بل تعتبر الحق الصاروخي حقا سياديا لا يمكن المساومة عليه.
كذلك تعتبر طهران ما حققته خلال فترة مفاوضات الوصول لاتفاق 2015 حقوقاً ثابتة لا يمكن التراجع عنها، إذ سمح نهج أوباما الرخو تجاه إيران إلى تمددها في سوريا واليمن والعراق وإحكام السيطرة على لبنان، وفسرت طهران الاتفاق بأنه اعتراف لها بالسيادة الإقليمية، وفي المحصلة لا ترى طهران أنها ملزمة بالتراجع عن المكتسبات التي حققتها على حساب اتفاق عام 2015، وعلى العكس من ذلك ترى في التصعيد أسلوباً مجرباً لتحقيق المكاسب، ويعزز هذه القناعة لدى الملالي انسحاب أميركا من أفغانستان والحديث عن تقليص وجودها في المنطقة.
ترى طهران في التصعيد أسلوباً مجرباً لتحقيق المكاسب، ويعزز هذه القناعة انسحاب أميركا من أفغانستان و الحديث عن تقليص وجودها في المنطقة
تتضاعف القناعة الإيرانية في ظل إدارة أميركية يصفها كثيرون بـ "ولاية أوباما الثالثة"، وهو الذي أعطاها ما أعطاها للوصول إلى اتفاق وصفه خليفه ترامب بأسوأ اتفاقية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، لذا أعلن الانسحاب منه وأعاد فرض عقوبات قاسية على إيران لجلبها إلى طاولة التفاوض وإبرام اتفاق أكثر قوة، وهو ما تسعى الإدارة الحالية إليه من خلال دمج البرامج الإيرانية الثلاثة (النووي – الصاروخي – الإقليمي) ضمن اتفاق واحد مستفيدة من أخطاء الماضي ووقائع الحال والاستقبال وكلها تصب بأفول النجم الإيراني.
تذهب كل من طهران وواشنطن إلى فيينا لدفن جثة الاتفاق الماضي بدلاً من إحيائها، فإن كانت طهران قد أعلنت أنها ذاهبة لمناقشة رفع العقوبات عنها، فإن واشنطن أضمرت أنها ذاهبة لإنهاء أرجحية المواقف الأوروبية وإمالة الموقفين الروسي والصين باتجاه تحميل طهران مسؤولية فشل المفاوضات من قبل جميع أطراف خطة العمل الشاملة المشتركة، وبعدها لا يمكن لأحد التخمين أي الخيارات ستسقط العمائم عن طهران.