ثلاثة مفاصل روسية حاسمة في عمر الثورة السورية، كان لها الدور الأبرز ليس في تغيير موازين القوى ميدانياً وسياسياً فحسب، بل كان لها أكبر الأثر في تحديد مصير الحراك الثوري على العموم.
المفصل الأول كان في العام 2013، حين أقدم نظام الأسد على ارتكاب مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية (يوم الأربعاء 21 آب 2013) إذ راح ضحية تلك المجزرة ما يزيد عن 1466 ضحية، معظمهم من الأطفال والشيوخ، نتيجة اختناقهم بغاز السارين.
وقد أحدثت تلك المجزرة البشعة ردود فعل دولية ومحلية دفعت حكومة باراك أوباما آنذاك إلى إرسال البوارج الأميركية إلى البحر المتوسط، تمهيداً لتوجيه ضربة عسكرية عقابية إلى نظام الأسد، وقد ذهبت معظم التوقعات آنذاك إلى أن ردّة الفعل الأميركية ستكون شديدة الأثر على نظام دمشق، بل ربما مال البعض إلى أن تلك الضربة المتوقعة ربما ستطول رأس النظام أو أعوانه المقربين، إلّا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سارع إلى احتواء الحنق الأميركي من خلال مبادرة عرضها على الإدارة الأميركية تقضي بتجريد نظام الأسد من ترسانته الكيماوية، مقابل إلغاء الضربة العقابية، أي الاكتفاء بنزع أداة الجريمة وترْك المجرم طليقاً.
لم تكن ردّة فعل إدارة ترامب حينذاك بأقل بهاتة من سلفه أوباما، إذ اكتفى باستهداف هنكارات أو حظائر فارغة للطائرات بعد أن أخبر الروس مسبقاً بموعد استهدافها
وافقت الحكومة الأميركية آنذاك، بل ربما وجدت في مبادرة بوتين مخرجاً مناسباً لتتنصّل من مسؤوليتها كدولة عظمى حيال جريمة كبرى بحق المدنيين السوريين، فضلاً عن أن إدارة أوباما كانت مشغولةً آنذاك بالملف النووي الإيراني، إذ كان يسعى أوباما إلى إنجاز اتفاق مع إيران بخصوص ملفها النووي، وبهذا يكون نظام دمشق قد اجتاز أول اختبار لردّة الفعل الأميركية، بل ربما كان عدول أوباما عن معاقبة الأسد بمنزلة ضوء أخضر لاستمرار الجريمة، بدليل أن نظام الأسد كرّر مجازره الكيماوية بعد أربع سنوات (مجزرة خان شيخون – نيسان 2017)، ولم تكن ردّة فعل إدارة ترامب حينذاك بأقل بهاتة من سلفه أوباما، إذ اكتفى باستهداف هنكارات أو حظائر فارغة للطائرات، بعد أن أخبر الروس مسبقاً بموعد استهدافها.
المفصل الثاني كان في أواخر أيلول 2015، حين أيقن الروس أن نظام الأسد لم يعد قادراً على الصمود عسكرياً أمام الضربات الموجعة التي يتلقاها من فصائل المعارضة المسلحة، على الرغم من الدعم الهائل والمساندة الميدانية التي كان يتلقاها من إيران وميليشياتها على الأرض، ولعل سقوط مدينة إدلب من يد النظام في آذار 2015 كان نذيراً حاسماً لبوتين بضرورة التحرك العسكري المباشر لإنقاذ حليفه الأسد من السقوط، يشاركه في خوفه الحليف الإيراني الذي دفع بالمقبور قاسم سليماني في زيارة عاجلة إلى موسكو ليطلب من بوتين التدخل الفوري لإنقاذ نظام دمشق.
وبالفعل لم يتردد بوتين من إرسال طائراته وجيوشه، وجعل من "قاعدة حميميم" منطلقاً مركزياً لحربه على السوريين، وفي حين صدّر بوتين عدوانه بشعارات الحرب على الإرهاب، إلّا أن الوقائع كانت تشير إلى مسار آخر، إذا تزامن العدوان الروسي آنذاك مع توغل تنظيم داعش في معظم الجغرافية السورية، فما بين عامي 2014 – 2016، تمكّن تنظيم داعش من السيطرة على تدمر والرقة ومعظم مدن وبلدات منبج والباب وجرابلس ومعظم بلدات الريف الشمالي في حلب، ولم تكن تلك المناطق والمدن المذكورة مستهدفةً من طائرات بوتين التي آثرتْ التركيز على استهداف فصائل الجيش الحر أينما وجدت، مع التركيز بشكل أكبر على القسم الشرقي من مدينة حلب التي سقطت كاملة بيد الروس، نهاية 2016، مع تهجير ما يقارب 200 ألف نسمة من سكانها تهجيراً قسرياً عبر الباصات الخضراء.
ويتجسّد المفصل الثالث في مطلع العام 2017، وأعني بداية انطلاق مسار أستانا، إذ استطاع الروس تحقيق منجزين متوازيين، فعلى المستوى الميداني استمرت روسيا بعملية احتواء للفصائل العسكرية، سواء باستهدافها عسكرياً والإجهاز على تموضعات الجيش الحر، أو من خلال استدراجها إلى طاولة مفاوضات أستانا ضمن شروط لا تتحقق فيها أدنى نسبة من التكافؤ أو التوازن، إذ ترافقت مفاوضات أستانا بوقف لإطلاق النار من جانب الفصائل العسكرية المعارضة فحسب، بينما استمر الروس ونظام الأسد بعمليات القتل والترويع والاستئصال.
اجتياح قوات النظام مدعومةً –جوياً– من الروس للغوطة الشرقية والقلمون ودرعا، كانت المآل الحقيقي لما يُدعى بتفاهمات خفض التصعيد
وقد تكللت مساعي أستانا من الناحية العسكرية باتفاق ما يسمى (خفض التصعيد) وهذا الاتفاق في حقيقته لا يعدو كونه مجرّد تفاهمات بين رعاة أستانا (روسيا وإيران وتركيا)، ولم يكن يحظى بالرعاية الدولية الكافية لتحصينه، ما جعل الروس يسارعون إلى خرقه وتجاوزه متى أرادوا، وبالفعل فإن اجتياح قوات النظام مدعومةً –جوياً– من الروس للغوطة الشرقية والقلمون ودرعا، كانت المآل الحقيقي لما يُدعى بتفاهمات خفض التصعيد.
وفي موازاة هذا المُنجَز العسكري الروسي، ثمة مُنجَز سياسي موازٍ، بل ربما كان نتيجة للأول، ويتمثل بالتفاف روسيا على القرارات الأممية وخاصة قرار جنيف 1 في حزيران 2012، و(2118 - 2254)، وإفراغها من مضامينها عبر استخدام الضغط العسكري في استهداف المدنيين والبنى التحتية وفصائل الجيش الحر من جهة، وأيضاً التحكّم والهيمنة على نشاط الأمم المتحدة والوسطاء الدوليين الذين لم يكن يخفى تماهيهم مع التوجه الروسي.
ولا حاجة للتأكيد على أن ديمستورا كان له الدور الأبرز في طرح فكرة (السلال الأربع) في لقاء جنيف الرابع (23 شباط 2017) مدفوعاً من روسيا، تمهيداً لتجزئة وتشظي الحل السياسي الذي تضمنته القرارات الأممية، حيث أفضت فكرة السلال –بعد موافقة هيئة التفاوض– إلى انحسار أهمّها (الانتقال السياسي) واختزال العملية السياسية في (سلة الدستور) التي وجد فيها نظام الأسد وحلفاؤه فرصة ثمينة لاستثمار الوقت، بل ملهاةً مناسبة لمشاغلة المجتمع الدولي من خلال إيهامه أن نظام دمشق يتفاعل مع القرارات الأممية.
الحرب الروسية لا تقتصر على تحدّي إرادة السوريين واستنزاف أرواحهم فحسب، بل باتت تحدّياً فظّاً وصارخاً لكل الحقوق والأعراف التي تنادي بالحفاظ على الكرامة الإنسانية
بالطبع لا يمكن إغفال الدور الذي لعبته روسيا في تقديم الحصانة لنظام الأسد من أي عقاب دولي، وذلك من خلال استخدامها حق النقض (الفيتو) 16 مرةً في مجلس الأمن لصالح نظام الأسد، ذلك أن الدفاع عن "الأسد" عسكرياً يوجب الدفاع عن جرائمه عبر الأروقة الدولية، مهما ارتقت تلك الجرائم بشاعةً ووحشيةً، وهذا ما يجعل الحرب الروسية لا تقتصر على تحدّي إرادة السوريين واستنزاف أرواحهم فحسب، بل باتت تحدّياً فظّاً وصارخاً لكل الحقوق والأعراف التي تنادي بالحفاظ على الكرامة الإنسانية.
بكل تأكيد، لا يمكن اختزال العدوان الروسي الذي ما يزال مستمراً بمفاصل محدودة العدد، كما أن استعادة مشاهد العدوان ربما لا تضيف جديداً، ولكن ما يوجب الاستعادة هو أن هذا العدوان بات جزءاً لا يتجزأ من تاريخ ثورة غدر بها كثيرون، ولكن الغدر الروسي كان أشدّ إيلاماً وفداحة على السوريين.