لا يستطيع حتى أشدّنا تفاؤلاً بحتمية انتصار الثورة، إنكار أنه قد ذهل لحظة انهيار نظام الأسد، وأنه احتاج كثيراً من الساعات، على الأقلّ ليصدّق أن النصر الذي آمن به وانتظره لسنوات قد حدث فعلاً. واليوم أكثر ما يشغل باله وبال معظم السوريين التساؤل: حسناً، وماذا بعد؟
في حالة الإرباك هذه، وبحكم عدم اعتياد السوريين، لعقود مضت، على أن يكون مستقبلهم ملكهم، حيث لم يشاركوا يوماً في صناعته، يبدون اليوم وكأنهم يتخبطون في أحلامهم عن سوريا القادمة، فنسمع لغة جديدة لم نألفها نحن الذين عشنا في "سوريا الأسد".
قد لا يعرف كثير من السوريين اليوم، ماذا يريدون تماماً لمستقبل بلدهم، لكنهم بالتأكيد، ومما خبروه من تجارب كارثية، يعرفون كثيرا عما لا يريدونه.
كسوريّ، لا أريد أن تُدهمَ بيوتنا لا في وضح النهار ولا بعد منتصف الليل، لأخذنا إلى المعتقلات من دون مذكرة قضائية صادرة عن جسم قضائي نزيه..
كواحدٍ منهم، سأنتدب نفسي اليوم لأبحث عن بعض الأمور التي لا يريد السوريون أن يشهدوها ثانية في حياتهم، وقد يبدو خوضي في هذا الأمر شخصياً ورومانسياً، ومع ذلك من يستطيع القول إن الأحلام الكبيرة لا تبدأ مغلّفةً ببعض الرومانسيات قبل أن تتحقق واقعاً؟ حسناً، سأبدأ من واقع تجربة مريرة عشتُها مع مئات آلاف السوريين.
كسوريّ، لا أريد أن تُدهمَ بيوتنا لا في وضح النهار ولا بعد منتصف الليل، لأخذنا إلى المعتقلات من دون مذكرة قضائية صادرة عن جسم قضائي نزيه.
تلاحظون طبعاً أنني لا أشطح في أمنياتي، وأن أوّل أحلامي الشخصية المتواضعة، هو أن نغدو محكومين بالقوانين كمعظم سكّان الكرة الأرضية.. لا يسرق أحد ما أعمارنا في السجون السرية ولا حتى العلنية، ولا يقتلنا أحدٌ ما تحت التعذيب ويرمينا في مقابر جماعية.
لا أريد قائداً استثنائياً مُلهماً تهبهُ لنا السماء ليقودنا إلى الأبد بحكمته التي لا يدانيها أي خلل، ولا يأتيها الباطل لا من أمامها ولا من خلفها، ما أريده هو رئيس دولة ينتخبه السوريون، يخطئ في بعض قراراته، لأنه من البشر، ويتراجع عن خطئه، ويعتذر.
وحين يكون الخطأ جسيماً يستقيل، أو ربما يذهب إلى المحاكم، وحتى حين يكون هذا الرئيس موظفاً بارعاً، فإنه يعود إلى بيته محكوماً بالمدد الدستورية، ليمارس عملاً آخر، أو يتقاعد فيعيش حياته مُكرّماً مع أبنائه أو أحفاده.
لا أريد لأطفال المدارس السورية أن يرددوا شعارات لا يفهمونها، فيبدون كببغاءات غبية، بعقول مسطَّحة، يكررون جملاً فارغة تم تلقينها لهم في أبنية إسمنتية، تشبه السجن أكثر مما تشبه المدرسة.
ولا أريد أن أرى في الكتب المدرسية، ما يصادر عقول الأطفال لصالح رأي واحد، حتى لو كان هذا الرأي صائباً، ففي حقول الرأي لا صواب مطلقا، ولا أريد أن يكون في تلك الكتب، ما يمجّد القادة الملهمين وهم على قيد الحياة وفي مناصبهم.
لا أريد أن تذهب أكثر من نصف ميزانية الدولة لرواتب وتسليح الجيش وأجهزة الأمن، ليتبيّن لنا فيما بعد، أنها كانت مخصّصة لقتل السوريين وحماية الطغم الحاكمة، وليست لحماية البلد من الأعداء المحتملين، ولا أريد لموازنات التعليم والصحة والتنمية أن تكون في ذيل القائمة وكأنها ملحقات شكلية غير ضرورية، اضطر واضعوها لإضافتها ليقال إنهم يحكمون دولة لا مزرعة مافيا.
من واقع ما أشاهده اليوم على الشاشات، في مقابلات الشارع مع الناس، حتى في ظل ما يبدو أنها لحظات حريّة مطلقة، لا أريد أن أرى مواطنون مرحِّبون بكل شيء، تأخذهم الرهبة حين يشاهدون الكاميرا، فيقولون ما يحب أن يسمعه الحكام الجدد، دون أن يجرؤوا على التعبير عن مخاوفهم أو أقلّه الإشارة لما يشاهدونه من سلبيات. باختصار أحلم أن أرى مواطناً على الشاشة يقول: "ما جرى ويجري لا يعجبني"، حتى لو كنت أختلف معه.
في سوريا القادمة، لا أريد أن أذهب لإنجاز أية معاملة رسمية، فأقابل موظفاً حكومياً، يشعرني أنني يجب أن أكون ممتناً له، أنه غادر فراشه ومنزله صباحاً وأتى إلى العمل. وأكثر من ذلك لا أريد أن أرى درج مكتبه مفتوحاً ومليئاً بأوراق نقدية تجمّعت من رشاوى سابقة، تقول لي بصفاقة: يجب أن تدفع كي تتيسّر أمورك.. أحلم بموظف يبتسم مرحباً، وهو يعلم جيدا أنه موجود ويتقاضى راتبه، لأجل خدمتي، فيقول لي: كيف أستطيع خدمتك يا سيدي. أجل "يا سيدي".
شرّع الأسد الأب في الثمانينات، قوانين وأصدر مراسيم، ليرسخ عبرها انتصاره مع أعوانه على السوريين، وكان من ضحاياها مئات الآلاف، ممن فقدوا أرواحهم أو صودرت ممتلكاتهم..
لا أريد لطلاب الجامعات السورية أن يدرسوا وهم يفكرون باختيار البلد الذي سيذهبون إليه بعد التخرج، ليعملوا ويبنوا مستقبلهم، مع إحساسهم أن لا إمكانية لبناء مستقبلهم الشخصي في بلدهم، ولا أريد أن تبقى البلد من دون الطبقة الوسطى التي هي عماد العمل فيه، ويشكل الخريجون الجامعيون عصبها.
في الختام، لا أريد اليوم عدالة المنتصرين التي تورث أحقادا جديدة، ومن المشكوك فيه أن استخدام مفردة "العدالة" في هذا السياق هو أمر جائز. شرّع الأسد الأب في الثمانينات، قوانين وأصدر مراسيم، ليرسخ عبرها انتصاره مع أعوانه على السوريين، وكان من ضحاياها مئات الآلاف، ممن فقدوا أرواحهم أو صودرت ممتلكاتهم.
طبعاً هذا لا يعني إطلاقاً، أن لا محاسبة للمجرمين والقتلة والفاسدين، فمن دون هذا الأمر لن يسترد السوريون حقوقهم ولا حتى كرامتهم، عدا عن الخشية من أن هؤلاء القتلة سوف يعيدون تنظيم أنفسهم لينقضّوا ثانية علينا. العدالة الحقيقية هنا هي استثمار في مستقبل سوريا.
على الصعيد الشخصي، مستلهماً خاتمة كتاب "الهويّات القاتلة" للأديب اللبناني أمين معلوف، أقصى ما أتمناه شخصياً، أن يكبر أحفادي، ويعودوا على سبيل الفضول ليقرؤوا كل ما كتبته عن "سوريا الأسد"، سوريا التي ابتلعها الوحش لأكثر من نصف قرن، هو جلّ عمري الذي قضيته إما مسجوناً أو لاجئاً، فيقول أحدهم ولو بينه وبين نفسه: لو تستطيع العودة يا جدّي، لترى كيف عادت تلك البلاد التي طالما تحدّثت عنها لتصبح "سوريا العظيمة".