تعتبر المسألة الكردية السورية من الناحية التاريخية الصرفة مشكلة تركية تساقطت آثارها في سوريا، أكثر مما هي مشكلة سورية، على الرغم من أن القوى الكردية في سوريا أعادت صياغتها على شكل مشكلة كردية سورية.
يتناول كتاب "مسألة أكراد سوريا: الواقع، التاريخ، الأسطرة" لفريق من الباحثين عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2013، نشوء مجتمع محلي جديد في الجزيرة السورية، وانطلاق الحركة السياسية الكردية ونشوء أحزابها وتطورها وعلاقتها بالقوى السياسية الأخرى، ليتناول أخيرا، حراك الأكراد في الثورة السورية.
الأكراد في سوريا: إطار تاريخي عام
اتجهت الهجرات الكردية عموما من شمال الحدود السورية ـ التركية الجديدة إلى جنوبها، وشجعت السياسات الإثنية للاحتلال الفرنسي الهجرة نحو الجزيرة السورية.
ترتب على هذه الهجرة ازدياد عدد سكان الحضر في الجزيرة السورية، ولا يدخل في هذه العدد البدو الرحل من العرب ولا المكتومون، بل المقيدون حصرا.
اتبعت الحكومات السورية بعد الاستقلال وحتى منتصف الخمسينيات سياسة تقييدية على مستوى التسجيل بالنسبة إلى الجزيرة، خصوصا تجاه الأكراد لأسباب إثنية ـ سياسية.
في عام 1962 قامت حكومة العظم بعملية إحصاء استثنائي للسكان في الحسكة، وقضى قرار وزارة الداخلية بإنهاء سجلات الأحوال المدنية السابقة وإجراء إحصاء عام جديد، واعتبار السوري هو كل من كان مسجلا في قيود الأحوال المدنية قبل عام 1945.
طرحت مسألة استئصال المشكلة الكردية في الحسكة بعد قيام حركة الثامن من آذار عام 1963، من خلال برنامج تعريب شامل يقوم على تهجير السكان الأكراد إلى الداخل وتوزيعهم واعتماد سياسة التجهيل، وإجلاء كل من لم تثبت جنسيته، وخنق المهاجرين الأكراد اقتصاديا بعدم تأجيرهم أو تمليكهم أي أرض، واستبدال المشايخ الأكراد بمشايخ عرب.
شكل نشوء المجتمع الكردي في الجزيرة السورية مركز ثقل سكاني بالنسبة إلى المجموع العام للسكان الأكراد السوريين، وتحول المجتمع الكردي إلى أحد أبرز الحقائق الإثنية واللغوية والسكانية السورية.
وبخلاف أكراد الداخل المقيمون في سوريا منذ قرون، شكل أكراد الأطراف حالة مجتمعية مرتبطة بالتحولات في كردستان تركيا أكثر مما هي مرتبطة بسوريا.
وبينما مر أكراد الداخل بمرحلة الاندماج السياسي الوطني في إطار الحركة الوطنية السورية، فإن سلطات الانتداب الفرنسي حاولت أن تستغل في إطار سياسات الهوية الإثنية بعض قادة الأكراد الأطراف الأقوياء في الجزيرة السورية لبناء كيان كردي ـ كلدو ـ أشوري مستقل ذاتيا تحت الانتداب الفرنسي، وهو ما تمثل في حركة الجزيرة الانفصالية بين عامي 1937 ـ 1939.
لكن معظم الأكراد في الجزيرة العربية قاوموا مشروع الانفصال هذا وحملوا السلاح ضده، ليحتضر المشروع الانفصالي.
خلال مرحلتي الاستقلال والجلاء 1943 ـ 1946، حدثت عملية اندماج سياسي واسعة للنخب الكردية، خصوصا النخب الجزراوية في مختلف الأجهزة التشريعية والتنفيذية الإدارية العليا والوسطى للدولة الفتية.
وصل إلى السلطة في مرحلة الانقلابات العسكرية عدد من كبار الضباط الأكراد في إطار تعرب أكراد الداخل، وشغل بعضهم رئاسة الجمهورية (حسني الزعيم، أديب الشيشكلي، فوزي سلو) ومناصب كبيرة في قيادة الجيش.
ولم يكن لهؤلاء أي سياسات مختلفة في اتجاهاتها الأساسية عن سياسات الوطنيين العرب السوريين من ناحية هوية الدولة والصراع مع إسرائيل، بل إن سياسة تقييد تملك الأجانب للأراضي في منطقة الجزيرة (الأكراد غير الشرعيين) صدرت في عهد الشيشكلي.
واجه المجتمعات الكردية السورية مؤثران في تطورها: المؤثر الكردستاني المرتبط بـ "الحزب الديمقراطي الكردستاني" في العراق، والمؤثر الثاني كان "الأبوجي" المرتبط بـ "حزب العمال الكردستاني".
ويعود أوضح تأثير للمؤثر الأول إلى أواخر الخمسينيات، بينما يعود دور المؤثر الثاني إلى النصف الثاني من الثمانينيات وما تلاها حتى الآن.
الحركة السياسية الكردية في سوريا
يمكن تمييز ثلاث مراحل أساسية في تاريخ الحركة الكردية السورية الحديثة:
1ـ مرحلة "خويبون" التي انطلقت مع تأليف جمعية "خويبون" أواسط العشرينيات، وانحسرت في أواخر الثلاثينيات.
في هذه المرحلة كان جهد "خويبون" متركزا على العمل في كردستان تركيا، لكن أقطابها المقيمين في سوريا الذين اتخذوا من الجزيرة قاعدة لهم انشقوا بين جناح آل بدرخان ـ حاجو آغا الذي تورط بالخطط الفرنسية لتأليف كيان إثني كردي ـ مسيحي في الجزيرة، وجناح آل قدري جميل باشا الذي عارض هذا المخطط، وركز فاعليته على تحرير كردستان تركيا.
2ـ مرحلة "البارتي" التي ارتبطت بنشوء "الحزب الديمقراطي الكردي (البارتي)" عام 1957، واتسمت بتفاعل المجتمع الكردي السوري مع عودة الملا مصطفى البارزاني إلى العراق عام 1959، وفك تحالفه مع عبد الكريم قاسم عام 1961، وقيادته القتال في نفس العام ضد القوات العراقية.
بدأ الحزب بجذب الشباب الكردي وبجذب قوى سياسية مثل حزب "أزادي ـ الحرية" الذي أسسه الشاعر جكر خوين، وجمعية "وحدة الشباب الديمقراطيين الكرد".
وبتأثير الانقسامات الكردية في العراق، انقسم الحزب الوليد بين إيديولوجيتين يمينية ويسارية، وما إن جاء عام 1965 حتى انبثق عن "الحزب الديمقراطي الكردي (الباراتي)" ما سيعرف لاحقا "الحزب اليساري الكردي" في مواجهة النواة القديمة التي عرفت بـ "الحزب اليميني الكردي".
3ـ اتسمت المرحلة الثالثة بتضافر عاملين كردستانيين مؤثرين على الحركة الكردية السورية الحديثة، هما "الآبوجية" التركية الصاعدة (نسبة إلى عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني)، والعامل الثاني هو نشوء حكومة إقليم كردستان في شمال العراق عام 1992.
الأكراد في الثورة السورية
كان التوجه السياسي بالنسبة إلى التجمعات الكردية بعد اندلاع ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن، تجنب البدء في الاحتجاج، وعدم الاستجاء لدعوات غير معلومة المصدر.
ابتعدت الأحزاب الكردية عن تعبئة أنصارها إيديولوجيا في الذكرى السابعة للانتفاضة الكردية 12 آذار / مارس 2011، فخلت الخطابات في هذا اليوم من لهجة تصعيدية ضد النظام.
لكن في الأول من نيسان / إبريل 2011 شارك الأكراد لأول مرة في تظاهرة بمنطقتي عامودا وعين العرب، ورفعوا شعارا تتواءم مع تلك التي حددت لـ "جمعة الشهداء".
فتح امتداد الاحتجاجات إلى المناطق الكردية الباب لإمكانية التحاق الأحزب بالتظاهرات، لكن النظام عمد إلى احتواء الأكراد، إذ التقى الأسد بوجهاء من العشائر الكردية ووعد بمنحهم الجنسية السورية.
رأت الأحزاب الكردية أن أزمة النظام ستنعكس إيجابا على قضيتهم، لذلك منعت الأحزاب الكردية مناصريها من المشاركة في التظاهرات.
غير أن جزءا من القوى الكردية آثر الانخراط في صفوف الثورة (شباب تيار المستقبل، شباب يكيتي)، وإن لم تصل المشاركة الكردية في المظاهرات إلى مرتبة تهديد النظام الذي رفض استخدام العنف في المناطق الكردية مقارنة بغيرها.
كان عدم مشاركة القوى السياسية الكردية القوية في المظاهرات نابعا من فكرة أن إسقاط النظام عملية معقدة وصعبة للغاية وذات تكاليف اجتماعية باهظة، ومن هنا كان القرار السياسي الكردي
مع تزايد الضغوط الدولية على النظام، ظهرت نقاشات حزبية كردية حول ضرورة إنضاج موقف من النظام والثورة
في عمومه، تجنب المشاركة في المظاهرات والضغط على النظام سياسيا لتقديم تنازلات.
لم يشذ عن ذلك سوى "تيار المستقبل الكردي" بزعامة مشعل تمو الذي انسحب من ائتلاف الحركة الوطنية الكردية في أيار / مايو 2011.
مع تزايد الضغوط الدولية على النظام، ظهرت نقاشات حزبية كردية حول ضرورة إنضاج موقف من النظام والثورة، واشتد النقاش حتى انتهى بانسحاب "حزب يكيتي" من "هيئة التنسيق الوطنية"، تحت عنوان أن معالجة الهيئة للمسألة الكردية في بيانها التأسيسي ليست واضحة.
بدأت الأحزاب الكردية على تشكيل كيان سياسي من شأنه السيطرة على الشارع الكردي المحتج، فتم تشكيل "المؤتمر الوطني الكردي" في تشرين الأول / أكتوبر 2011.
في هذه الفترة ارتفعت وتيرة استخدام مصطلحات تنم عن نزعة انفصالية لدى الأحزاب الكردية، مثل مصطلح كردستان الغربية والعرب في كردستان الغربية، وشيئا فشيئا، أصبح مصطلح الفيدرالية يستخدم يوميا في الخطابات السياسية لمعظم الأحزاب الكردية.
كما بدت عملية التقارب بين "المجلس الوطني السوري" والقوى الكردية لأسباب أربعة:
ـ لم تكن الأحزاب الكردية راغبة في تبني شعار إسقاط النظام.
ـ عدم امتلاك المعارضة لرؤية واضحة حيالة المسألة الكردية في سوريا.
ـ الدور التركي المتزايد في دعم المعارضة.
ـ رفض القوى الكردية لعسكرة الثورة خوفا من بطش النظام.
خرجت المعارضة السورية في آذار / مارس 2012 بوثيقة "العهد الوطني" التي أكدت على حل المسألة الكردية حلا ديمقراطيا عادلا ضمن وحدة سوريا أرضا وشعبا، لكن "المجلس الوطني الكردي" انسحب منه مع بقية الأحزاب الكردية بسبب رفض المؤتمرين تضمين عبارة "سوريا دولة متعددة القوميات".
مع انتشار الثورة وتوجه النظام إلى مخاطبة الأكراد عبر "حزب الاتحاد الديمقراطي" وحده، وجد "المجلس الوطني الكردي" نفسه مضطرا إلى توجيه خطابه السياسي إلى الثورة والمعارضة السورية.
ثم اتجه المجلس نحو صوغ خطاب سياسي جديد في نيسان / إبريل 2012، سمي "البرنامج السياسي المرحلي للمجلس الوطني الكردي"، وجاء فيه أن المجلس يمثل أوسع فئات الشعب الكردي في سوريا، وسوريا دولة ديمقراطية متعددة القوميات والأديان والطوائف، وضرورة الإقرار الدستوري بوجود الشعب الكردي وهويته القومية في سوريا.
أشاع هذا البرنامج ارتياحا في أوساط المعارضة، لكنه تلقى انتقادات كردية واسعة لأنه تراجع عن برنامج تأسيس "المؤتمر الوطني الكردي".
نحو حل ديمقراطي
لا يسمح توزع المجتمعات المحلية الكردية السورية الراهنة، بحكم تباعدها الجغرافي الكبير، بأي حديث عن مجتمع كردي متواصل وممتد جغرافيا.
وبالتالي، لا يسمح هذا التوزع بأي طرح لحل "المسألة الكردية" السورية على قاعدة مفهوم "كردستان الكبرى" خارج الإطار الوطني السوري.
لذلك، فإن حل "المسألة الكردية" السورية لا يمكن أن يتم إلا في إطار حل وطني سوري محض، بما يضع الأكراد السوريين في المجتمع وتمأسسه الدولي بالجمهورية العربية السورية، وهو مجتمع عربي متنوع تزيد فيه نسبة العرب على 91 % من إجمالي سكانه.
تشكل الثورة السورية بما تطرحه من حتمية دخول سوريا في مرحلة تحول تاريخي جديدة، فرصة حقيقية لإنتاج حل ديمقراطي عادل وواقعي لـ "المسألة الكردية".