مريع ما وصل إليه حال السوريين في مناطق الشمال ومحبط حد القرف بعد أكثر من عقد من الصراع مع سلطة العصابة التي قدمت كل التنازلات لكل شذاذ آفاق العالم ورفضت أن تقدم تنازلات للمجتمع السوري، وهي بالأصل حق من حقوقهم الإنسانية التي يقرها حتى الدستور الذي لم يكن لهم رأي بما خطّ به ومع ذلك لم تلتزم به السلطة الحاكمة التي كتبت وفصّلت مواده ومبادئه(!)
اليوم لم يعد كل السوريين محكومين بتلك السلطة وحدها بل استولد الصراع نماذج لسلطات أمر واقع فرضت نفسها على المجتمعات الواقعة تحت سيطرتها بالقهر الأمني وسطوة السلاح، في استنساخ صادم لسلطة العصابة الأسدية في جميع أشكال سلطتها وكيفية ممارستها لها ومستوى البطش والقمع الذي يشترك فيه السوريون جميعا ممن هم خارج تلك المنظومات الإجرامية الحاكمة.
تلك الميليشيات لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون حامية للمدنيين، وراعية لحرياتهم وضامنة لحقوقهم..
كنت أنوي أن يكون هذا المقال بمنزلة عملية تشريح لواقع الحال في الشمال السوري في ظل حكم الميليشيات التي تسمى زورا فصائل (الجيش الوطني)، لكن مستجدات الأوضاع وتطوراتها منذ عملية اغتيال الناشط محمد عبد اللطيف (أبو غنوم) وزوجته وجنينها في مدينة الباب، والتي تبين أن من ارتكبوها هم أنفسهم من يدعون حماية المدنيين وحماة أمنهم (!) فرضت علي الإسراع بالحديث عن الموضوع.
والحقيقة وكما هو واضح للمتابعين جميعا أن تطورات الأحداث في تلك المناطق تعيد تأكيد ما كنا وآلاف غيرنا يقوله إن تلك الميليشيات لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون حامية للمدنيين، وراعية لحرياتهم وضامنة لحقوقهم.. فمنذ أن صارت تلك المناطق الملاذ الأخير لملايين البشر من النازحين والمهجرين قسرا، ليس ثمة قوة خارجية تعتدي عليهم وتسلبهم كراماتهم وحقوقهم إلا تلك القوى الميليشيوية التي اختزلت أهدافها بالسيطرة على إقطاعيات صغيرة من الأرض، تفرض عليها سلطانها وتمارس فيها فجورها، وبالتالي فلا يمكن والحال كذلك أن نفترض أن تلك الميليشيات ستكون يوما أداة ردع لعصابات النظام إذا ما حاولت افتراس المدنيين في تلك المناطق، فضلا عن هراء القول بأنها جيش وطني لتحرير الأرض السورية من النظام وميليشياته.. فلا يمكن لمن بقي في جمجمته بقية عقل من السوريين أن يفترض ذلك فالقذارة لا تزيلها بقذارة مماثلة.
منذ تبني مناطق خفض التصعيد وإجبار القوى على إخراس أسلحتها وحصر القوى وحصارها ضمن كانتوناتها العسكرية، وصولا إلى تخميد الصراع والدخول في حالة عطالة سياسية وعسكرية، تحولت تلك القوى إلى مجرد مافيات مزنرة بسلاح فقد وظيفته الوطنية، مضافا إليه فائض قوة وفساد وانعدام أي آلية للمحاسبة وتحولت معها ما كانت تسمى مناطق (محررة) إلى مجرد مزارع للطغيان والقهر وفقدان الأمل، حتى صارت الأنفس تهمس بصمت ما الذي تختلف فيه تلك القوى عن ميليشيات النظام؟ وهل كان يتعين علينا أن ندفع كل هذا الثمن لنعود إلى نقطة الصفر أو ما دونه؟!!
في وسط كل هذه المعمعة العسكرية والسياسية يبقى المدنيون السوريون هم وحدهم من يسدد فواتير المصالح المتصادمة يوما، والمتوافقة يوما آخر
بالأمس سيطرت ميليشيات "هيئة تحرير الشام" على عفرين المستباحة وما كانت لتفعل لولا وجود قرار أو على الأقل إشارات تركية بالموافقة على ذلك، ولربما تكون الخطوات التالية ابتلاع مدن وبلدات أخرى تبدأ في اعزاز وتنتهي في الباب، ولا تفسير لذلك إلا بأن تلك الخطوات تمثل تمهيدا لما يتم الاشتغال عليه ضمن منظومة أستانا لصياغة وفرض حل يقتضي غالبا إعادة تسليم تلك المناطق للنظام، وحل تلك الميليشيات وإدماج بعضها في بنية ميليشيات النظام السوري، وتعديل جزئي على اتفاق أضنة يلحظ المطالب التركية، وفي وسط كل هذه المعمعة العسكرية والسياسية يبقى المدنيون السوريون هم وحدهم من يسدد فواتير المصالح المتصادمة يوما، والمتوافقة يوما آخر .. وهي نتيجة طبيعية جدا لغياب الوظيفة الوطنية للسلاح، وغياب المشروع الوطني الذي عجزت عن إنجازه قوى المعارضة المرتهنة طوال عقد كامل.
لكن ما يزال ثمة سؤال يطرق جدران العقل ويبحث عن إجابة منطقية عليه، كيف لتركيا أن تسوّق أنها تحارب الإرهاب شرقا – وهي حقا تفعل ذلك – بينما تغض الطرف عن سيطرة قوة مصنفة لديها كمنظمة إرهابية غربا؟!!!.