مرضى السرطان وأزرار أبو محمد الجولاني

2023.08.12 | 19:51 دمشق

ءؤر
+A
حجم الخط
-A

في أواخر نيسان الماضي تحدث أبو محمد الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام خلال فيديو بثه الإعلام الرسمي للهيئة تحت عنوان "معايدة قيادة المحرر الوجهاء والكوادر" بأنه يمتلك العديد من الأزرار، التي يمكنها تغيير الوضع عما هو عليه، وتمكنه من مواجهة التحديات، وقد أطلق الجولاني عليها أسماء مختلفة، زر قلب الطاولة، زر الانفجار الكامل، زر التسخين وغيرها.

وقد أصبح حديث الجولاني عن امتلاكه الأزرار محور حديث الشارع في الشمال السوري، فأنصاره اعتبروا ذلك تهديداً لنظام الأسد بإمكانية قلب الطاولة واستعادة السيطرة على مناطق جغرافية خسرتها المعارضة فيما سبق، لا سيما مدينة حلب، بينما سخر المعارضون له من حديثه وأطلقوا عليه لقب "أبو الأزرار".

 

 

ومنذ ذلك الإعلان استخدم الجولاني أزراراً في أوقات مختلفة هذا العام، ولأسباب وظروف مختلفة.

رز ضحايا حرس الحدود

بعد منتصف ليل 12 آذار الماضي سلم حرس الحدود التركي جثة شاب قتل تحت التعذيب في أثناء محاولته العبور من شمالي سوريا إلى الأراضي التركية بطريقة غير شرعية، بالإضافة إلى 7 آخرين أحياء لكن علامات الضرب المبرح والتعذيب بادية عليهم بشكل كبير، معظمهم تعرض لكسور كبيرة في جسده.

على الرغم من أنها ليست المرة الأولى التي يرتكب بها حرس الحدود التركي انتهاكات جسيمة بحق طالبي اللجوء العابرين للحدود بطريقة غير شرعية، لكنها المرة الأولى التي يكون فيها تعاطي الجانب السوري بهذا الشكل، ففور دخول الضحايا أصدر كل من معبر باب الهوى – أول مرة يصدر تصريح بهذا الشكل- وإدارة الشؤون السياسية التابعة لهيئة تحرير الشام تصريحات بيانات تدين تلك الانتهاكات، وعلى الفور دعا مسؤول مكتب العلاقات الإعلامية في الهيئة إلى تنظيم وقفات احتجاجية داخل معبر باب الهوى تدين تلك الانتهاكات.

في الأيام التالية تفاعلت القضية خاصة بعد إيقاف مقدم أحد البرامج في إحدى وسائل الإعلام السورية في تركيا من قبل السلطات التركية لساعات، وذلك إثر مشادة كلامية حصلت بينه وبين ضيف تركي خلال حلقة تلفزيونية تتناول انتهاكات حرس الحدود التركي، وما تبع ذلك من تفاعل للقضية، التي أدت لفتح ملفات وتحقيقات من قبل المنظمات الحقوقية الدولية في انتهاكات حرس الحدود التركي، وهو ما أجبر الجانب التركي على خفض تلك الانتهاكات، وخفض عمليات ترحيل طالبي اللجوء الذين يتعرضون لاعتداءات من حرس الحدود التركي إلى منطقة إدلب، وتسليمهم للسلطات المقربة من أنقرة في شمالي حلب.

قضية محقة وصوت وحيد ينصر المظلومين

قد يتساءل البعض، هل هذه التنديدات والمظاهرات والبيانات خاطئة؟ أليست انتصاراً وحيداً لقضية السوريين الذين قالوا بالمئات خلال السنوات الماضية وهم يحاولون اجتياز الحدود دون أن يذكرهم أحد؟

نعم هذه قضية محقة، وواحدة من أبرز القضايا التي على الهيئات السورية العمل من أجل إيجاد حل لها، لكن الجولاني كان شاهداً صامتاً عليها طوال أعوام كاملة.

كما أن سير الأحداث وتوقيتها يشير إلى أن هذه القضية المحقة ما هي إلا زر ضغط عليه الجولاني ليُحرج تركيا عندما ضاق الخناق على المجموعات الموالية له شرقي حلب، فالحادثة قوبلت بهذا التصعيد غير المسبوق من الهيئة بعد سلسلة من الأحداث كان أولها استهداف طائرة مسيرة تركية لصدام الموسى الملقب بـ أبو عدي القيادي في أحرار عولان "أحرار الشام القاطع الشرقي" الموالين لهيئة تحرير الشام في أواخر كانون الثاني هذا العام، ومن ثم استئناف حالة التصعيد بعد الانتهاء من الزلزال وضغوط الجانب التركي على أحرار عولان من أجل تسليم معبر الحمران يربط مناطق نفوذ المعارضة مع مناطق نفوذ قسد لوزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة.

إذاً كان رفض وفضح انتهاكات حرس الحدود التركي عبارة عن زر يمسك به الجولاني منذ سنوات وضغط عليه عندما اشتد الخناق على أتباعه شرقي حلب وبدأت المسيرات التركية باستهدافهم.

زر مرضى السرطان

منذ زلزال شباط المدمر أوقف الجانب التركي دخول المرضى السوريين الذين يتعذر علاجهم في شمالي سوريا إلى أراضيه، وذلك يتعلق بسببين رئيسيين أولهما تعرض معظم مشافي ولاية هاتاي الحدودية مع سوريا والتي كان يتعالج فيها المرضى السوريين إلى التدمير بفعل الزلزال، وثانيهما هو ما نتج عن الزلزال من إصابات بالآلاف داخل تركيا أدت لإشغال أسرة المرضى في مشافي الولايات التركية غير المتضررة من الزلزال لأشهر عديدة.

بعد الانتهاء مباشرة من مأساة الزلزال، عمل المكتب الطبي في معبر باب الهوى على استئناف دخول المرضى السوريين إلى المشافي التركية، خاصة مرضى السرطان، واستطاع في 5 أيار إدخال أول دفعة من المرضى، واقتصرت على مرضى السرطان الذين كانوا يتلقون علاجهم في المشافي التركية.

استمر المكتب الطبي في مفاوضاته مع الجانب التركي من أجل قبول مزيد من المرضى ذوي الحالات التي لا علاج لها في الشمال السوري كمرضى الجراحات القلبية، إضافة إلى مرضى السرطان الذين تم اكتشاف إصابتهم في المرض بعد الزلزال، والذين بلغ عددهم 608 مرضى.

ومؤخراً كشف موقع تلفزيون سوريا عن واحدة من أكبر خلايا العملاء التي تخترق صفوف هيئة تحرير الشام وعلى مستويات عالية، وقد بلغ عدد المعتقلين من صفوف الهيئة وجهاز الأمن العام وحكومة الإنقاذ التابعين لها بهذه التهمة بالمئات، فضلاً عن دخول هيئة تحرير الشام في مأزق كبير بعد فشل حملتها الأمنية ضد حزب التحرير رغم مرور أكثر من شهرين على إطلاقها، وتصاعد التظاهرات المناهضة للهيئة في مناطق نفوذها، فكان لا بد من الضغط على زر يشغل أنظار الإعلام، والشارع الداخلي عن تلك القضايا وإشغاله بقضية تمس جوهر اهتماماته.

قرار دخول المرضى صادر قبل إقامة الاعتصام

ففي العشرين من تموز الماضي دعا ناشطون مقربون من الهيئة إلى جانب أعضاء مكتب العلاقات الإعلامية في الهيئة إلى اعتصام مفتوح لإجبار الجانب التركي على إدخال مرضى السرطان الـ 608 الذين ثبتت إصابتهم في السرطان بعد الزلزال من أجل تلقي العلاج في المشافي التركية، ترافق ذلك مع منشورات نشرتها إدارة الشؤون السياسية في الهيئة ومختلف الوزارات والمؤسسات الحكومية والتابعة للهيئة بصفات رسمية وغير رسمية.

وعلى الفور احتشد عشرات الناشطون والمرضى والأهالي لمناصرة هذه القضية العادلة، لكن الخفايا كانت تشير إلى الأهداف التي ذكرت سابقاً في إشغال الإعلام والرأي العام الداخلي بقضية معينة وإبعاده عن قضايا أخرى.

في اليوم الأول لإقامة الاعتصام بلغني من مصادر خاصة أن القائمين على الاعتصام كانوا على علم بتقدم المفاوضات بين المكتب الطبي في معبر باب الهوى والجانب التركي من أجل إدخال مرضى السرطان الجدد، وبحسب المصادر فإن المكتب الطبي قد تلقى موعداً محدداً لإدخال المرضى الجدد، لكنه نظم الاعتصام متذرعاً بوجود مطالب أخرى أبرزها زيادة السن المسموح بها لدخول المرافق مع المريض من 8 سنوات إلى 18 سنة، إضافة إلى المطالبة بالسماح بإدخال أجهزة نوعية قال عضو مكتب العلاقات الإعلامية في الهيئة للناشطين القائمين على الاعتصام بأنها لا تدخل، في إشارة إلى أجهزة العلاج الإشعاعي.

كثيرون من المعنيين والناشطين بلغهم ما بلغني لكن الجميع قرر النظر في كلام المصادر دون نشره خشية التشويش على قضية محقة من قضايا السوريين المقهورين، وتقاطعت المصادر بأن هيئة تحرير الشام تقف خلف الاعتصام، وقد صدرت إلى الواجهة عشرات الناشطين بعضهم على علم وتنسيق معها، وبعضهم الآخر خرج إلى الاعتصام من أجل مناصرة المرضى دون دراية بنوايا الهيئة.

وبمتابعة مختلف التصريحات الإعلامية الصادرة عن مدير المكتب الطبي في معبر باب الهوى الدكتور بشير السماعيل، ولم يتطرق السماعيل في أي مقابلة صحفية إلى رفض الجانب التركي دخول المرضى، بل كان كلامه يقتصر على تأكيد عدم دخول أي مريض من مرضى السرطان الجدد إلى تركيا حتى تاريخ حديثه.

الهيئة في الخلف والناشطين في الواجهة

خلاف حصل في نهاية حملة مساندة مرضى السرطان فضح العديد من الأمور وأكد كلام المصادر، فقد تحدث عدد من المشاركين في الحملة بأنهم كانوا يعلمون بموعد دخول المرضى قبل تنفيذ الاعتصام، كما كشف الخلاف أن مكتب العلاقات الإعلامية في الهيئة كان يشرف على توزيع الأدوار في الحملة وتسمية الأفراد ومهامهم، وشكل إدارة للحملة استبعد في مرحلتها الثانية ناشطون وجهات إنسانية بطرق مختلفة.

بدأ دخول مرضى السرطان الجدد البالغ عددهم 608 مريض إلى تركيا بتاريخ يوم الأربعاء 26 تموز الماضي، وقد تأخر عن الموعد المحدد مسبقاً بيومين وذلك لترتيبات معينة لدى الجانب التركي.

بينما بدأ الاعتصام في يوم السبت 22 تموز الماضي، وعلى الرغم من تأكيد القائمين على الاعتصام بأن اعتصامهم مستمر حتى تحقيق مطالبهم الإضافية المتعلقة بزيادة السن المسموح له لدخول المرافق، إلا أن المفارقة العجيبة كانت فض الاعتصام عشية انطلاق معرض الكتاب بعد بدء دخول المرضى ودون تحقيق تلك المطالب الإضافية، ومن ثم معاودة إطلاق المرحلة الثانية من حملة دعم مرضى السرطان والتي هدفت إلى جمع التبرعات بعد انتهاء معرض الكتاب الذي استمر لعشرة أيام، فمعرض الكتاب هو الآخر حظي باهتمام كبير من قبل الهيئة وحكومة الإنقاذ وروجت له ماكينة إعلامية ضخمة.

في المحصلة يمكن القول بأن مرضى السرطان كانوا زراً ضغط عليه الجولاني من أجل إشغال الإعلام والرأي العام الداخلي عن قضية خلية العملاء الكبيرة في صفوف الهيئة وجهاز الأمن العام، وإبعاد الأنظار عن الفشل الذريع في الحملة الأمنية على حزب التحرير والتي لم تحقق أي نتائج تذكر بعد أكثر من شهرين على إطلاقها.

بدأت مخاوف لدى عدد من الناشطين في الشمال تتصاعد مع وضعهم في مأزق صعب، ما بين مناصرة قضايا السوريين المحقة وما بين استخدامهم كأدوات لتنفيذ غايات هيئة تحرير الشام، ويتخوف الناشطون من ضغط الجولاني على الزر القادم ووضعهم في الواجهة كما في كل مرة.

وعندما شارك السوريون في الحملتين سواء بفعل أو بقول، فهم قاموا بواجبهم الأخلاقي والوطني تجاه المظلومين والمحتاجين من أبناء بلدهم، وربما قسم كبير منهم لا يعلم من وراء الحملة، ولا يهمه ذلك، ما دامت الحملة تطالب بمطالب محقة، لكن من الواجب التذكير بأن القضيتين لم تطرأا مؤخراً وهما معاناة مستمرة منذ سنوات طويلة، إلا أن الجولاني هذه المرة استغل هذه المعاناة.

ربما استفاد ضحايا حرس الحدود وذووهم واستفاد كذلك مرضى السرطان المقهورون من جراء الحملتين، لكن لا يقبل عاقل بتوظيف قضايا إنسانية بحتة في مناكفات ليس لهم فيها ناقة ولا جمل، وكذلك يجب أن يدير هذه الحملات مختصون يعون بآليات العمل الإنساني والتطوعي والمناصرة.