وصلت إلى ألمانيا لاجئاً أواخر سنة 2015، وفور حصولي على الإقامة نويت الانخراط في الخدمة التطوعية الاتحادية، والتي يُشار إليها في الألمانية بـ (Bundesfreiwilligendienst)، ومدة هذه الخدمة ما بين نصف سنة في حدّها الأقل، وسنة ونصف في حدها الأكثر، ولكن معظم المتطوعين يخدمون سنة، وهي متاحة للألمان والمقيمين في ألمانيا على حدٍّ سواء، من أجل أن يقدّموا خدمة للمجتمع في الروضات والمدارس والمستشفيات ودور الرعاية الصحية، وحتى في المعامل وورشات العمل اليدوية، وهي مفتوحة لجميع الأجيال بدءاً من سن السادسة عشرة، ويمنح المتطوع مصروف جيب ما بين المئة وسبعين يورو إلى المئتي يورو شهرياً، إضافة إلى التأمينات الاجتماعية، والإقامة والوجبات إذا اقتضى الأمر، ويُمنح العامل في نهاية العمل شهادة تخرّج.
وهذا النشاط بالنسبة إلى اللاجئ بالغ الأهمية، فهو يساعده في التعرف على الحياة في ألمانيا، بشكل أفضل وأسرع، ويقدم له خبرة مهنية، حيث يرشده عملياً موظفون يحسنون اللغة الألمانية، فيكتسب المهنة واللغة في الوقت نفسه، وخلال فترة العمل تقيم الهيئة المشرفة ندوات وورشات عمل لجميع المتطوعين وهم من ألمانيا والبلدان الأخرى، فيتعرفون على بعضهم بعضاً، ويتبادلون خبراتهم التعليمية والمهنية والاجتماعية.
يمّمت وجهي شطر (مكتب المدينة) المسؤول عن هذا النشاط، وقابلت الموظفة المختصة، فاقترحت عليّ العمل في (مدرسة الغابة/Wald schule)، وضربت لي موعداً مع مدير المدرسة، والذي هو صاحب القول الفصل في قبولي أو رفضي، وفي الموعد المقرر اصطحبت معي بول موس صديقي الإنكليزي المتزوج من ألمانية، وكان رجل أعمال معروفاً في المدينة، وابني محمود الذي كان يطير في تعلم الألمانية كأنه البراق يضع لسانه عند منتهى طرفه، بينما كنت أسير فيها متمهلاً متثاقلاً، فرغم أكوام الأوراق التي كتبت عليها بالألماني المفردات والجمل والحوارات، وعناوين الكتب والمقالات، كنت أشعر دائماً أنّني جالس على كرسي طبيب الأسنان، وقد انغرزت إبرة البنج في لساني بدل لثتي! وما زال تأثير هذا المخدر بعد هذه السنوات يظهر بين الفينة والأخرى، ولاسيما إذا جاءني اتصال تليفوني مفاجئ من ألمانيٍّ أو ألمانية.
في بداية لقائي مع المدير أكسل دومن، أخبرني أنه سيعطيني جوابه خلال أسبوع، ولكن في نهاية اللقاء عندما وقفنا لنودعه، مدّ يده ليصافحني وقال: لا داعي للانتظار! أهلاً وسهلاً بك معنا في مدرستنا، وسيبدأ دوامك في منتصف الشهر الثامن، أي: قبل أسبوع من افتتاح المدارس.
خلال هذه المدة كانت ترن في أذني كلمة (الفعّالية) التي هي العنصر الأهم في معادلة إنتاج الحضارة، ولطالما تحدث مالك بن نبي عن افتقاد العالم الإسلامي لهذا العنصر
تفاجأت في أول يوم عمل لي بأن كادر المدرسة هو ثلاثة موظفين فقط: المدير، ومساعدة، والعبد الفقير، وأنّ المساعدة متطوعة مثلي، وينتهي عقدها خلال أشهر، وأنّ الموظف الرسمي هو المدير فقط، وأن المساعدَين يتغيران سنةً فسنة، ورغم هذا العدد القليل، والكادر المختصر فقد تيقنت، خلال مدة وجيزة، أن هذه المدرسة تقوم بدور رائع يغطي أنحاء دائرة (Märkischer Kreis) كلها والتي تضم حوالي خمس عشرة مدينة مثل: إزرلون، وهيمر، وألتينا، ولودنشايد، ومندن، ونوينغاده، وكيرشبه، إلخ، وخلال هذه المدة كانت ترن في أذني كلمة (الفعّالية) التي هي العنصر الأهم في معادلة إنتاج الحضارة، ولطالما تحدث مالك بن نبي عن افتقاد العالم الإسلامي لهذا العنصر على الرغم من توفر بقية العناصر اللازمة الأخرى.
ربضت مدرسة الغابة على سفح جبل قرب إحدى الغابات في مدينة إزرلون، وضمت هذه الغابة القريبة مستودعاً كبيراً تابعاً للمدرسة فيه حيوانات الغابة المحنطة، وكنّا يومياً نستقبل تلاميذ المرحلة الابتدائية من المدارس القريبة، ونرسم لهم مسارهم في الغابة من خلال أسهم ولافتات، ونضع لهم حوالي عشرين محطة في الغابة، وعند كل محطة يقف الطلاب ويفتحون الكراسات التي نقدمها لهم، ويجيبون على السؤال الخاص بهذه المحطة، وفي أثناء جولتهم يمرون على مستودع الحيوانات، ويشاهدونها ويقرؤون المعلومات المدوّنة بقربها، ومع المحطة الأخيرة يكون الطلاب قد أكملوا جولتهم بكامل المتعة والاستثارة والترفيه، ثم نراجع معهم الإجابات، ونعطي الكراسات لأساتذتهم ليتم اعتبارها في تقييم التلميذ.
أما المدارس البعيدة في المدن الأخرى فكنّا نضرب لهم مواعيد في الغابات القريبة منهم، ونسبقهم إليها، ونضع لهم علامات المسار، وهكذا دواليك، وعندما يكون الطقس غير ملائم كنّا نذهب إلى الروضات مصطحبين الحيوانات المحنطة، فيراها الأطفال ويلمسونها ويتعرفونها، أو إلى المصحات التي تؤوي ذوي الاحتياجات الخاصة.
تتعدد مهام (مدرسة الغابة)، وتتنوع وظائفها، ومن جملة هذه المهام والوظائف بناء مفاهيم المحافظة على البيئة ومراعاتها مراعاة مطلقة لدى الأطفال في أول نشأتهم
وأذكر هنا تجربة واحدة من هذه التجارب: زرنا مركزاً صحياً بُني على قمة تلة عالية تحيط بها الغابات والجبال لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة من المكفوفين المشلولين المقعدين! جلبنا معنا حيوانات محنطة، وزجاجات فيها روائح مختلفة لأشجار وحيوانات، وجلوداً لعدة حيوانات، وأنواعاً مختلفة من أغصان الأشجار وأوراقها، بالإضافة لقرص مدمج فيه أصوات بعض الحيوانات. جلبنا لهم الطبيعة إلى الصالة التي تجمّعوا فيها، كنّا نمسك بأيديهم، ونجعلها تمرّ على الحيوان المحنّط، أو على الجلد، أو على ورق الأشجار، فكانوا يلمسون ويشمون ويسمعون، ثم يخمّنون ويجيبون، وكانت فرحة معرفتهم لا تضاهيها فرحة على الإطلاق... على الإطلاق! كان بعض النزلاء أقدم من بعض. رفع أحدهم صوته وهو ينادي المدير: أنا أعرفك يا أكسل، لقد زرتنا قبل ثلاث سنوات. أنت رائع. أنا أحبك. علت الضحكات، وحاول الجميع التصفيق، منهم من استطاع، ومنهم من منعته إعاقته. قلت لذلك النزيل: أنا أمير مساعد أكسل. تذكرني دائماً أيضاً! ضحكوا مرة أخرى، وصفّقوا أو حاولوا أن يصفّقوا. لقد تحوّلت الساعات التي قضيتها في هذا المركز إلى بؤرة توهّج إنساني خالص، ما زلت أشعر بتنزّل رحماتها وبدفئها حتى هذه اللحظة.
تتعدد مهام (مدرسة الغابة)، وتتنوع وظائفها، ومن جملة هذه المهام والوظائف بناء مفاهيم المحافظة على البيئة ومراعاتها مراعاة مطلقة لدى الأطفال في أول نشأتهم. ففي هذه المدرسة يستثارون للمحافظة على بيئة الغابة بطريقة عاطفية مؤثرة تنطبع في عقولهم، وتترسّخ في وجدانهم، فعند لقائنا تلاميذ الروضات، وطلاب المرحلة الابتدائية نريهم في أثناء الأنشطة المتنوعة هذا الغزال الصغير اللطيف المحنط. نخبرهم أن عمره ثلاثة أيام حين مات، لأن إنساناً مهملاً ألقى كيساً بلاستيكياً أو غطاء علبة مشروبات بلاستيكية أو معدنية أو ما شاكل ذلك، فتناوله الحيوان، غافلاً عن الضرر الذي يؤدي لقتله!! ينظر الأطفال إلى هذا الغزال اللطيف، وتنكسر نظراتهم، ويطلقون تنهيدات التأثر والاستنكار، ويضع بعضهم يده الصغيرة على فمه مذهولاً من إهمال الإنسان، وأقرأ في ملامح وجوههم معاهدتهم أنفسهم أن يكونوا حريصين على نظافة الغابة، وعلى نظافة المدينة، حريصين على عدم تلويثها وأذية حيواناتها.
...
كانت تجربة جميلة خضتها، سردت ذرواً منها على أمل أن تنتقل بلداننا من (قانون الغاب) إلى (مدرسة الغابة).