متقاعدٌ لا تكلِّمني والحياة ما بعد حيطان الستين!

يتظاهر فرنسيون منذ أيام رافضين رفع بداية سن التقاعد الوظيفي، في إشارة إلى رغبة بالوصول السريع إليه، وبالتالي التحرر من عالم الوظيفة وإشراطاتها. المتظاهرون عبروا عن مطالبهم بالعنف والشرطة كذلك تعاملت معهم بعنف، وحين يحضر العنف فإن ذلك يعني غياب لغة التواصل وأن كل طرف يريد أن يأخذ المطالب نحو منطقة لا يريدها الطرف الآخر، وتحمل تلك المظاهرات إشارات اقتصادية وأدوارا للشركات التي تدير عالم التقاعد الوظيفي والميزانيات المخصصة لها، وكذلك زيادة معدل الأعمار في ظل الخدمات الصحية المتطورة في العالم الغربي، أما الهولنديون فيتلقون قرارات حكومتهم بكل ترحاب حيث بداية سنّ التقاعد هو الأعلى عالمياً: 67 عاماً، في مقايسة لمعدل الأعمار في هولندا الذي بلغ 80 عاماً. وقد بلغ عدد الهولنديين ممن أعمارهم فوق سن التقاعد ثلاثة ملايين ونصف من 17 مليوناً، فأفرزت تلك الكتللة البشرية نمط حياة في هولندا اسمه: حياة التقاعد السعيدة؛ إذ إنهم يشكلون هدفاً لمئات الأنشطة الثقافية والمعرفية والترفيهية والتعليمية والسياحية، بل إن جزءاً كبيراً من ثروة هولندا يديرها أولئك المتقاعدون، الذين يملكون الكثير من الشركات، ووفروا مالاً كثيراً من أجل أن يستمتعوا به في حياة ما بعد التقاعد، حيث إنه في الثقافة الهولندية يتم تقسيم الحياة إلى قسمين: ما قبل التقاعد حيث الهدف الرئيسي هو العمل وجمع المال والإنجاب والانشغال بما ينشغل به الآخرون، وحياة ما بعد التقاعد حيث الهدف الرئيسي هو الاستمتاع، وممارسة ما تحب.

دلالات سنّ التقاعد في أوروبا تختلف اختلافاً جذرياً عن دلالاته في الدول المشرقية، فهو بداية حياة جديدة يجهز الفرد نفسه لها ولديها خططها وبرامجها

(متقاعدٌ لا تكلمني) مقولةٌ أطلقها مثقف عربي، يريد من خلالها الإشارة إلى أنه خارج اهتمامات الباحثين عن عالم العمل الوظيفي وتبعاته وتفاصيله وفرصه ومناكفاته، هي رغبة بالإشارة إلى أن وقته غدا متاحاً لحياة؛ بوصلتها الرئيسية أن تأخذ خياراتك التي تحبها، من دون أن تكون أسيراً لخيارات لا ترغب بها. يحدّد ذلك المثقف العربي خياره الرئيس، بمرحلة ما بعد التقاعد الوظيفي: القراءة وكتابة مقولاته وأفكاره حول ما يقرؤه أو ما يشغله معرفياً الآن أو في زمان سابق، إنه زمان الحرية الفردية والاختيار من دون إشراطات العلاقات العامة.

دلالات سنّ التقاعد في أوروبا تختلف اختلافاً جذرياً عن دلالاته في الدول المشرقية، فهو بداية حياة جديدة يجهز الفرد نفسه لها ولديها خططها وبرامجها، أما في عدد من الدول الشرقية فهو إشارة إلى سن التعاطف والمرض والتعب وانتظار النهاية وملازمة دور العبادة أو المقاهي ذات الأسعار الرخيصة أو طرح أفكار فات زمانها، من يبلغ سنّ التقاعد الوظيفي فيحضر سؤال رئيس في حياته: من أين سنتدبر ما يكفينا لمعيشة محترمة ومن أين سنتدبر ثمن العلاج؟ وهذا على العكس من نمط الحياة الأوروبية حيث تكفل دولة الرعاية الاجتماعية حياة هادئة وكافية.

ثمة مفهوم جديد لسن التقاعد بدأ يشيع مؤخراً في عهد الثروة الرقمية، وهو أن عدداً من رجال الأعمال الشباب جنوا ثروة مبكرة، كافية وهم في حيطان الأربعين حيث يبدؤون بالاستمتاع بتفاصيل حياتهم لأن مفهومهم للثروة اختلف اختلافاً جذرياً عن المفاهيم القديمة حيث يبقى عدد من رجال الأعمال منشغلين بجمع أكبر كم ممكن منها، لكن هؤلاء الشباب يرون أن المتعة بالمال أهم من الركض خلف تحصيله في ظل غياب المفهوم التقليدي لتوريث المال. يطرح أولئك مفهوماً جديداً بعيداً عن عالم الموظفين، في عهد ثقافة الفريلانس، حيث تنتشر ثقافة: اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب وإن احتجت فإن الدولة تحملك، من جهة أخرى أساليب الرفاهية غدت جزءاً رئيسياً من الاقتصاد العالمي بعد أن كان الاقتصاد يعني تأمين كفايات البشر الأساسية وإنتاج ما يجعل أساسيات الحياة مؤمَّنة، في ظل فائض رأس المال العالمي بخاصة في الاقتصاد الغربي.

هناك شريحة أخرى اختارت أن تتقاعد مبكراً مما يشغل الناس فيما يمكن تسميته الزهد بما يركض الآخرون خلفه من مال أو مناصب أو متع أخرى، بل إن هناك عدداً من الأصدقاء يتابعون بحزن ما يركض الآخرون خلفه قائلين: لم يكتشف أولئك الأصدقاء معاني الحياة بعد، يركضون وهم في الخمسين أو الستين وكأنهم أبناء الثلاثين، لا يتركون لأنفسهم فسحة متعة أو التقاط نَفَس!

يردّ الأصدقاء الآخرون: ليس لدينا ملاءة مالية تكفي لمهامنا الأساسية: بناء بيت وتزويج الأولاد وحماية من الطوارئ الصحية أو الأمنية، نحن نعيش من دون أمان وظيفي أو حياتي، لذلك يسيطر علينا الهلع، أما أصدقاؤنا الآخرون فلديهم ما يكفي من المال كي يستمتعوا بوقتهم أو باتوا يحملون جنسيات دولة الرعاية الاجتماعية وأخذوا ينظرون علينا! صحيحٌ أننا ضحايا ثقافة جمع المال والركض خلفه وهي ثقافة عدم الأمان القادمة من الاقتصاد البدوي والفلاحي وصولاً إلى الصناعي بثوبه التقليدي، لكن دولنا كذلك لا أمان لها أو فيها!

ثمة فرق رئيس بين الحياة في المشرق والغرب أن نمط الحياة في الغرب مهيَّأ لمثل هذا النمط من الحياة في ظل شيوع الحالة الفردانية وبالتالي لا تحتاج لكثير عناء، إضافة إلى كمّ الهموم والعوارض الصحية وما تعرض له الإنسان من ضغوطات وأمراض قبل الوصول إلى تلك المرحلة من العمر، حيث لم يتعرض لذلك الإنهاك الذي تعرض له الإنسان في المشرق، على أنه من المهم الإشارة إلى أن حالة الفرد ومعيشته قبل الوصول إلى سن التقاعد في دول الخليج العربي مثلاً ليس كحالة الأفراد في البلدان الأخرى، على الأقل في الجانب الاقتصادي.

هناك تقاعد مهني وظيفي، وهناك تقاعد عن الدور الاجتماعي، وكذلك تقاعد عن الدور الاقتصادي، وهناك تقاعد عن الدور الفكري بل إن هناك شريحة تقاعدت عن ممارسة مهامها الحياتية عامة، وهناك من تقاعد عن الانشغال بالشأن العام بعد أن كان شغله الشاغل.

في عودة لصديقنا المثقف والكاتب حسين بافقيه، الذي أطلق مقولة متقاعدٌ لا تكلمني يقول: هذه من أكثر مراحل العمر سعادة وقراءة وإنتاجاً، حيث لا يتواصل معي إلا أولئك الأصدقاء الخُلَّص ممن يحفظون الود فأتبادل معهم فكرة أو حواراً حول كتاب أو سواه، وأنا أنتج سنوياً كتاباً حول ما مر معي في حياة ما قبل التقاعد، وقد صدر له في السنوات الأخيرة كتاب عن الأستاذ الجامعي السوري: بكري الشيخ أمين وكتاب عن طه حسين وكتاب عن غازي القصيبي.. ويتابع: أنا بعيد كلياً عن أمراض سنّ التقاعد من حيث النقّ والانشغال بالتقييمات السلبية أو محاربة الأجيال الطالعة، بل يشغلني إعادة قراءة ما مرّ معي وتقييمه وتقويمه حيث أملأ وقتي بسعادة القراءة المتأنية!

على المستوى الشخصي عملتُ في السابعة والثلاثين من عمري مستشاراً لوزير التعليم العالي، في ظل ثقافة وظيفية واجتماعية سورية تقول: المستشارون هم من بلغوا التقاعد! ولدى حواري مع زملائي المستشارين سألوني: نحن نقدم عصارة خبرتنا للوزير، فما ستقدم أنت له؟ احترت في الإجابة، فليس الذنب ذنبي أن أكَلَّف بهذه المهمة، أجبتهم: أنتم تقدمون عصارة تجربتكم، وأنا أقدم أفكاري المختلفة كشاب متحمس، فالإدارة لم تعد خبرة كبار السن فحسب، بل كذلك أفكار الشباب وحماسهم واندفاعهم وأفكارهم المختلفة! ومن تجربتي ومعايناتي فإن الكثير من الإدارات الناجحة تلك التي يديرها شباب متحمسون حريصون على ترك بصمتهم، وأثرهم، أما المتقدمون في السن فينشغلون بالحذر والعدّ حتى العاشرة وكثرة الحسابات.

يحرص عدد كبير من المتقاعدين على إعاقة الحراك الشبابي عبر تمترسهم خلف مقولات ورؤى عفا عليها الزمن

في المشهد الفكري والسياسي الهولندي يدير معظم جوانب الحياة خاصة ما يتعلق بالشأن العام عدد كبير من الشباب، وطاقم المستشارين في معظم الوزارات الهولندية معظم العاملين فيه شباب تحت الثلاثين يستضيئون بخبرة المتقاعدين و(يكلِّمونهم) ليستمعوا إليهم، يحاورنهم لكنهم حين يأخذون القرار ياخذونه في ضوء عجلة الحياة المعاصرة اليومية، وبحسب ما فهمتُ من أصدقاء فإن عدداً من الدول الخليجية العربية باتت تأخذ بهذا الخيار، الأمر أبعد بكثير من صراع أعمار أو أجيال أو خيارات، الأمر أقرب ما يكون إلى تغير مفاهيم اقتصادية واجتماعية، بل قد يكون أحد إفرازات الاقتصاد الرقمي الذي يديره شباب يجلسون خلف شاشاتهم ولا يلتقون ببعضهم!

في عودة إلى المشهد السوري، خاصة في جانبه السياسي والحزبي، يحرص عدد كبير من المتقاعدين على إعاقة الحراك الشبابي عبر تمترسهم خلف مقولات ورؤى عفا عليها الزمن، وكأنهم لا يريدون أن يسمحوا لجيل الشباب بالمرور بعيداً عن حواجزهم من ضمن انتشار ثقافة ممنوع المرور إلا عبر حواجزنا ورضانا. ومحاولة إيقاف الزمن عند أولئك لها سلبياتها، حيث توقفت حلولهم عند زمان محدّد، ولا يمكنهم مقاومة تجدّد الحياة! فيغدو مفهوم التقاعد محاولة لإيقاف عجلة الحياة وتقدم الأفكار ومقاومة الزمن، لكن ها هنا بالمفهوم السلبي، فالحياة شباب، لا تحاول أن توقف عجلتها، وعد إلى مقولة صديقنا: متقاعد كلمني لنتحاور ونتناقش، ولنترك أمر القرار وإدارة الحياة لأولئك الشباب فهم عجلتها وطاحونتها ومسارها ولنخصص الكثير من وقتنا للاستمتاع بما نحب!

يبقى السؤال مرة أخرى: متقاعدٌ لا تكلمني لأنني لن أفيدك! أم متقاعدٌ كلمني لأن لدي المختلف والناضج والمتجدّد والعصارة! متقاعدٌ كلِّمني لأنني ساقول رأيي بصراحة من دون مواربة، سأثير الجدل والمختلف. متقاعدٌ إنْ لم تكلمني سأكلمك أو أكلّم نصك؛ لأنني لن أدخل في حسابات الربح والخسارة، سأقول كلمتي وأمضي.