لعلّه من البدهي أن تتباين الآراء والمواقف وردود الأفعال حيال ما يُكتبُ ويُنشرُ بخصوص مسألة ما، بل ربما تسجّل هذه الظاهرة حالة إيجابية من حيث تنوّع الآراء ووفرة الروافد التي تغني الفكرة المطروحة، ولكنّ هذه الظاهرة تنزاح عن إيجابيتها حين تكون ردود الأفعال منبثقة عن لبس في التأويل أو التفسير أو الفهم، فعندئذٍ يجد الكاتب نفسه مدفوعاً بوازعٍ أخلاقي، إلى إعادة إيضاح ما أراد قوله، وها أنا أفعل ذلك، تلبية لاحتجاج فضيلة الشيخ (أحمد معاذ الخطيب) على مقالة لي بعنوان ( في الذكرى الخامسة للعدوان الروسي – هل ستشرق الشمس من موسكو؟) نُشرت في موقع تلفزيون سوريا بتاريخ 13 – 10 – 2020 ، وتتحدث المقالة عن الدور الروسي في الشأن السوري، إذ يرى الشيخ الخطيب – من خلال رسالة أرسلها لي - أن ما جاء في مقالتي هو انسياق مع المزاج العام، لتشويه مقالته التي كتبها بعد عودته من موسكو، وهي بعنوان ( هل ستشرق الشمس من موسكو؟) وقد نشرها في موقعه الرسمي بتاريخ ( 11 – 11 – 2011 )، كما يرى الشيخ معاذ أنه يتوجب عليّ قراءة مقالته، ومن ثمّ التحلّي بالشجاعة لأعيد تعديل ما كتبته، ليصبح معبّراً مع حقيقة ما كتبه، وليس مع ( أغراض المفترين) بحسب تعبير الشيخ معاذ.
وإني إذ أكتب هذه المقالة، أؤكّد أن ما أكتبه ليس نتيجة لقراءة أخرى لمقالة الشيخ معاذ كما أراد، لأني قرأتها أكثر من مرة إبان نشرها عام 2014، وكذلك ليس لأدفع عني تهمة قد طالتني، وليس استرضاءً شخصياً لأحد، بل تحرّياً للدقة فيما جاء بمقالتي، من خلال استنطاق الدلالة المباشرة للمفردات، ذلك أن ما كتبته هو مقالة مكتوبة بلغة مباشرة، وليست نصاً شعرياً أو أدبياً يحتمل التأويل والتفسير، آملاً أن يتسع صدر شيخنا الفاضل لما يلي:
أولاً - يقول الشيخ في افتتاحية مقالته، وبالحرف: ( أعترفُ أني ارتكبتُ خطأً سياسياً فيما مضى، وهو ظني أن هناك دولة ستنقذ بلدنا..، لأن الأنظمة الكبرى في السياسات الدولية لديها فقط مصالح وخطوط حمراء، وهذا ما يهمها، وتتحرك الأنظمة الصغيرة ضمن هوامش قد تضيق أو تتسع، ولكنها لا تستطيع تجاوز مسارات الدول الكبرى). ما هو واضح في كلام الشيخ الخطيب أنه ارتكب خطأً، وهذا الخطأ يكمن في (ظنه) أن دولةً ستنقذ بلدنا، ثم يشير سياق الحديث إلى أن هذه الدولة التي يمكن أن تنقذ البلد هي دولة كبرى، وأعتقد أنه يعني روسيا، لأن موضوع المقال هو زيارته لموسكو.
وقد جاء في افتتاحية مقالتي، وبالحرف: ( ليس وحده السيد معاذ الخطيب مَنْ ظن في يوم ما، أن الشمس ستشرق من موسكو). ولئن أبدى الشيخ معاذ اعترافه بخطأ يكمن في الظن، فإن ما جاء في كلامي لا يتجاوز ما أقرّه الشيخ معاذ نفسه، إذ قلت: ليس وحده السيد معاذ الخطيب (من ظنّ..)، فإذا كان الشيخ الخطيب يبدي أسفاً على ظنّ سابق، فهل يتوجب عليّ نفيه؟ وهل قرأ الشيخ معاذ في مقالتي كاملةً عبارة أؤكد فيها أنّ ظنه كان يقيناً؟
ثانياً – إذا كان الشيخ معاذ يعتقد أن ظنه كان خاطئاً، فهذا لا ينفي أن هذا الظن الخاطئ ما يزال يقيناً لدى كثيرين آخرين، فحين ذكرتُ في مقالتي أمثلة شتى من مثل: ( إشراف روسيا على اتفاق مسد مع حزب الإرادة الشعبية، أو لقاء وفد جبهة السلام والحرية بالخارجية الروسية، أو وساطة خالد المحاميد وأحمد العودة بين فصائل منطقة درعا والروس) فإني أتحدث عن وقائع ولا أروي حكايات أو أساطير، علماً أنني اتحدث عنها سياسياً، ولا أسفّه أو أشتم القائمين عليها، فهل عدول الشيخ معاذ عن أمرٍ أو فكرة ما، يعني انها لم تعد موجودة لدى سواه؟
ثالثاً – إذا كانت أحاديث الشارع تتجنى كثيراً على كل الشخصيات الاعتبارية السورية التي كان لها لقاءات مع الحكومة الروسية، فأؤكّد له ولسواه، بأن تلك الأحاديث لم ولن تكون ملهمة لأفكاري، فتاريخ حركات التحرر في العالم يؤكّد على أن العديد من قادة هذه الحركات قد جلسوا مع خصومهم ودافعوا ببسالة عن قضاياهم، وقد استشهدت بمقالتي المذكورة آنفا، بلقاء الدكتور برهان غليون بالخارجية الروسية بتاريخ 15 – 11 – 2011، حين كان رئيساً للمجلس الوطني، ومحاولته إقناع الروس بلجم آلة القتل الأسدية عن رقاب الشعب السوري، وها أنا أستشهد أيضاً بلقاء الشيخ معاذ أيضاً بالخارجية الروسية ذاتها، وللغاية ذاتها أيضاً، وكلا اللقائين كان مدفوعا بوازع وطني لا غبار عليه، ولكن هذا لا يلغي وجوب التمييز دائماً بين من يلتقي مع العدو للدفاع عن قضيته، وبين من يلتقي به لاستجدائه والاستقواء به على شعبه.
رابعاً – تأكيد الشيخ معاذ على أن ظنّه كان خاطئاً – كما جاء في افتتاحية مقالته - يجسّد شجاعةً وحسّاً نقدياً ربما افتقد إليهما كثيرون، فلماذا إذاً يغضب الشيخ معاذ حين يقرأ مقالة تشير في جزئية منها إلى ذاك الظن الخاطئ؟ علماً أن الشيخ معاذ يؤكّد في نهاية مقالته المذكورة على عدم وثوقه بالدور الروسي، كما يؤكّد على أن شمس الاستقلال لن تصنعها سوى عزيمة السوريين، ولكني لم أذكر ذلك في مقالتي لسبب بسيط، وهو أن موضوع مقالتي ليس استعراضا لما جاء في مقالة الشيخ معاذ أو الردّ عليها، بل الحديث عن الدور الروسي بالمجمل وكيفية تعاطي القوى السورية مع هذا الدور.
تأكيد الشيخ معاذ على أن ظنّه كان خاطئاً – كما جاء في افتتاحية مقالته - يجسّد شجاعةً وحسّاً نقدياً ربما افتقد إليهما كثيرون، فلماذا إذاً يغضب الشيخ معاذ حين يقرأ مقالة تشير في جزئية منها إلى ذاك الظن الخاطئ؟
خامساً – الشيخ معاذ الخطيب هو واحد من أصحاب الإرث النظيف في الثورة السورية، وقد جسّد سابقة حميدة حين آثر التنحّي عن منصبه في رئاسة الائتلاف حين وجد أن البوصلة لا تتجه إلى خدمة القضية الوطنية السورية، وهذا ما لم نجده لدى سواه على مدى ثماني سنوات خلت، على الرغم من المآلات الموجعة لراهن الثورة، إلّا أن نظافة هذا الإرث لا توجب العصمة المطلقة، ولا ينبغي أن تُخرس عقولَ الآخرين وآراءهم عن النقد وإبداء الرأي المغاير، طالما أن هذا يجري ضمن إطار آداب الحوار واحترام الرأي الآخر.
ثمّة أزمة لا أتمنّى أن تنتهي إلى الاستعصاء، وتكمن هذه الأزمة بيننا – نحن المواطنين السوريين – وبين بعض من تصدّروا المشهد السياسي أو كان لهم دور في الشأن العام، وأنا أعني الشرفاء والمخلصين منهم فقط، ولا أخاطب سواهم، أناشدهم بالقول: إن شهادة الآخرين بإخلاصكم ينبغي أن تفتح لديكم شهية الاستزادة بتقبّل آراء غيركم والاستماع إلى أصوات أخرى، لا ينبغي بالضرورة أن تكون صدى لأصواتكم فقط، لاعتقادي بأن الأصوات المغايرة هي أكثر صدقاً و فائدة وجدوى من صيحات التمجيد والإشادة والتعظيم، فليست جميع الأصوات التي لا تطربكم هي إما انسياق مع المزاج العام، أو أنها أحاديث مغرضين، أو ثرثرة شعبوية، قد لا نملك – نحن المواطنين - المساحات والمواقع التي تتيح لكم معرفةَ واستشراف ما هو غائب عنا، ولكننا بكل تأكيد، نشارككم حبّنا لبلدنا وإخلاصنا لقضيتنا الوطنية.