على مدار نحو عام منذ طوفان 7 أكتوبر وانخراط حزب الله مباشرة به كـ"جبهة إسناد"، بحسب توصيف الحزب، وما نجم عنها من تثبيت قواعد اشتباك لا تؤدي إلى الحرب المباشرة دأب الخطاب الإسرائيلي في لغته ومضمونه على تجنب مفردات استئصالية في التعامل مع الحزب، واقتصر على ديباجة تتمحور حول تطبيق القرار 1701 وانسحاب قوات حزب الله إلى ما وراء الليطاني والوصول إلى تفاهم ثنائي، بمعزل عن جبهة غزة، يضمن عودة مستوطني الشمال بشكل مستدام إلى مستوطناتهم وترك الترتيبات في الداخل اللبناني وتشابكاتها الخارجية لجهود المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين الذي تردد اسمه بشكل كبير في نشرات الأخبار نتيجة زياراته المتكررة.
لم يكن لدى نتنياهو وحكومته المتطرفة أي شك بأن هوكشتاين سيكون الأقدر على تمثيل مصالح إسرائيل ليس فقط بسبب الدعم غير المحدود الذي قدمته إدارة بايدن لإسرائيل في الإبادة التي تقوم بها في غزة، بل للصفات الشخصية التي يتمتع بها والتي تؤهله ليكون مبعوثا إسرائيليا بامتياز. فكما تشير السيرة الذاتية، ولد هوكشتاين في إسرائيل لعائلة يهودية أميركية وتلقي تعليمه في مدارس يهودية وخدم في جيش الاحتلال الإسرائيلي قبل العودة إلى الولايات المتحدة والانضمام إلى وزارة الخارجية عام 2011 حيث عمل في ملفات إشكالية كالعقوبات على إيران وصفقة الغاز بين إسرائيل والأردن وصولا إلى جهوده بترسيم الحدود البحرية التي أخطأ حزب الله عندما تعامل معها بإيجابية منتظرا اعترافا أميركيا، وغربيا بالمعية، بنفوذه الإقليمي أولا وهيمنته على المشهد السياسي اللبناني وفي مقدمتها ما كانت تراه قيادة الحزب حقا، لا تفاوض فيه، بفرض مرشحها لرئاسة الجمهورية سليمان فرنجية مع تسهيلات ومساعدات اقتصادية غربية وعربية تنتشل لبنان من أزمته الاقتصادية التي يلام حزب الله وحلفاؤه داخليا بشأنها.
فتحت جبهة لبنان وحققت فيها إسرائيل اختراقات صادمة باغتيال غالبية قيادة حزب الله من ضمنهم الأمين العام حسن نصر الله، رغم عجزها عن تحقيق اختراقات مهمة برية حتى الآن.
الاستطالة السابقة ليست فقط إشارة إلى حسابات خاطئة لحزب الله داخليا، بل هي رصد للتحولات في السلوك الإسرائيلي والأميركي على مستوى الخطاب والممارسة. فجولات هوكشتاين الأميركي/ الإسرائيلي لم تكن، كما هي الخطابات والمبادرات الأميركية في صفقة غزة، هدفها إلا شراء الوقت بانتظار تغير معطيات الميدان بشكل يسمح لإسرائيل بالانتقال نحو أهدافها، وهذا ما حصل في مطلع أيلول/ سبتمبر الماضي حيث تم إسقاط غزة، حماس وملف الرهائن من الخطاب الإسرائيلي، وغير الرسمي مقابل صعود واهتمام كبير بجبهة لبنان إلى درجة برزت شائعات وأقاويل آنذاك عن رغبة نتنياهو باستبدال وزير حربه يوآف غالانت بمرشح آخر أكثر تطرفا هو جدعون ساعر ما لم يلتزم بتعليماته ورغبة حلفائه في اليمين الديني بشن حرب عاجلة على لبنان. المفارقة هنا، أن غالانت كان راغبا ومنذ بداية العدوان في فتح جبهة لبنان ويوصف بأنه العقل المدبر لما يجري لكنه فضل، وكما موقف الجيش، مسايرة الإدارة الأميركية بعدم السير نحو الحرب الشاملة منذ البداية.
أيا يكن، فتحت جبهة لبنان وحققت فيها إسرائيل اختراقات صادمة باغتيال غالبية قيادة حزب الله من ضمنهم الأمين العام حسن نصر الله، رغم عجزها عن تحقيق اختراقات مهمة برية حتى الآن. ترافق ذلك مع تغير في خطاب وأهداف الحرب تجاه لبنان، بعد نجاح عملية اغتيال نصر الله خرج نتنياهو مختالا يوم 29 أيلول/ سبتمبر 2024 مرددا العبارة الدينية المتطرفة "كما هو مكتوب في التوراة سألاحق أعدائي وسأقضي عليهم.. نعمل بمنهجية على اغتيال قيادات حزب الله وتغيير الواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط كله".
من المتوقع، أن يضيع الفرقاء في التفاصيل والوقت بينما تنشغل إسرائيل بإنجاز مهمتها.
انسحبت التغيرات الأخيرة على نبرة الخطاب الأميركي أيضا، حيث استمر استخدام الديباجات المتكررة حول ضرورة تجنب الحرب الشاملة، في الوقت الذي وصف فيه الرئيس بايدن اغتيال "الإرهابيين" بأنه عمل جيد وتحقيق للعدالة. وفي 4 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، نقل موقع أكسيوس عن مسؤولين أميركيين أن "البيت الأبيض يسعى لاستغلال ضعف حزب الله لانتخاب رئيس جديد في لبنان"، وهو ما قد يفتح الباب لتغييرات محتملة في المنطقة.
يدرك جميع الفرقاء اللبنانيين مدى صعوبة تحقيق أو إنجاز هذا الهدف في الوقت الحالي، بالنظر إلى الأوضاع الراهنة في لبنان، من فراغ سياسي وأزمة اقتصادية مستمرة على مدار السنوات الماضية. كما تدرك الولايات المتحدة هذه الصعوبة، مما يثير تساؤلات كبيرة حول جدوى زيارة هوكشتاين الأخيرة وما هي أبرز محاورها أو عناوينها الجديدة؟
لن تخرج زيارة هوكشتاين عن السابق فيما يتعلق بتغليف المهمة العسكرية الإسرائيلية بأطر دبلوماسية أميركية جديدة. ضمن هذا السياق، جرى طرح مصطلح أو إطار جديد هو "1701 معدل" يتيح لإسرائيل، وكما رشح من تسريبات الزيارة، التحرك ضمن مساحة جغرافية محدودة في لبنان في استنساخ لمقترحها بشأن محور فيلادلفيا في غزة. ومن المتوقع، أن يضيع الفرقاء في التفاصيل والوقت بينما تنشغل إسرائيل بإنجاز مهمتها.
خلاصة القول، يدرك نتنياهو أنه سيكون بمعزل عن أي ضغط أو مقترحات أميركية لتغيير نهجه قبل وصول رئيس جديد إلى البيت الأبيض واستقراره فيه (أول مئة يوم)، وهي مدة زمنية كافية لا يلزمها إلا مبادرات دبلوماسية لشراء الوقت، وهو ما يفعله المبعوث الحالي آموس هوكشتاين.