موازاة مع اجتماعات مسار أستانا في نسختها الواحدة والعشرين خلال يومي (23 – 24 من الشهر الجاري)، قام وفد من هيئة التفاوض بنشاط موازٍ تمثل بزيارة إلى فرنسا التقى خلالها بمسؤول العلاقات الخارجية في البرلمان الفرنسي إضافة إلى لقاءات أخرى مع برلمانيين فرنسيين، وفيما يبدو الهدف من الزيارة التي يقوم بها وفد هيئة التفاوض هو الدفع نحو إحياء العملية السياسية في سوريا عبر إقناع الأطراف الدولية بضرورة القيام بمزيد من الضغوطات على نظام الأسد لإلزامه باستئناف عملية التفاوض من خلال تفعيل مسار اللجنة الدستورية، وهو الغرض ذاته الذي كان حاضراً في لقاء أستانا أيضاً، إذ وبحسب تصريحات رئيس وفد المعارضة إلى أستانا لبعض الجهات الإعلامية، الذي أبدى اغتباطه الشديد بتحقيق خرق مهم في اللقاء الأخير يتمثل باحتمال استئناف لقاءات اللجنة الدستورية ربما في القريب، بل ربما في اللقاء المقبل لاجتماعات أستانا الذي تحدّد انعقاده في النصف الثاني من العام الجاري.
إذاً وبحسب المعطى الملموس لنشاط المعارضة الرسمية السورية فإن ثمة هدف مشترك وإن اختلفت وجهات اللقاء والزيارات والأماكن، يتمثل بإحياء مسار اجتماعات اللجنة الدستورية باعتبارها – وفقاً للمعارضة السورية – القناة المؤدية إلى التطبيق الفعلي للقرار الدولي (2254) وربما يبدو هذا المنحى صحيحاً وفقاً للتفسير الروسي للقرار المذكور، والذي يحظى بالدعم التركي في الوقت ذاته، ولعل هذا ما جعل الاهتمام في لقاء أستانا الأخير يتمحور في جانب كبير منه حول ضرورة إعادة مسار التطبيع بين أنقرة ودمشق باعتباره ضرورياً ليس من أجل التقارب التركي مع نظام الأسد فحسب، بل باعتبار التقارب مع دمشق مدخلاً عملياً للحل في سوريا وفقاً لمنظور موسكو التي لم يتغيّر خطابها منذ بداية تأسيس مسار أستانا في مطلع العام 2017، وهو ما يعني (مصالحة بين نظام الأسد ومعارضيه) بوجود دالّة تركية على المعارضة، وما يماثلها على نظام الأسد، توازيها عملية إنشاء دستور أو إصلاح الدستور الحالي.
لم يفلح المبعوث الدولي غير بيدرسون حتى الآن في إعادة المسار الدستوري إلى الانعقاد بسبب الرفض الروسي الذي بدا يتجه نحو توجيه المسار إلى منحى آخر أُطلق عليه (المجموعة الرباعية)
تجدر الإشارة إلى أن اجتماعات اللجنة الدستورية قد تعطّلت منذ شهر تموز في العام 2022 بقرار روسي بمنع وفد نظام الأسد من الذهاب إلى جنيف نتيجة موقف سويسرا والاتحاد الأوروبي عموماً من الحرب الروسية الأوكرانية، وفي المقابل لم يفلح المبعوث الدولي غير بيدرسون حتى الآن في إعادة المسار الدستوري إلى الانعقاد بسبب الرفض الروسي الذي بدا يتجه نحو توجيه المسار إلى منحى آخر أُطلق عليه (المجموعة الرباعية) والتي تضم تركيا وروسيا وإيران ونظام الأسد، إذ تتركّز جهود تلك الرباعية حول هدف محوري هو المصالحة بين أنقرة ودمشق، موازاة مع إعادة دمج نظام الأسد مع محيطه العربي، وبالفعل قد حققت إيران شطراً من هذا المنجز على إثر التفاهمات السعودية الإيرانية برعاية صينية في آذار من العام الماضي، أعقبها إعادة علاقات الرياض مع دمشق وحضور بشار الأسد قمة جدة في شهر أيار من العام ذاته، إلّا أن العثرات التي أوقفت تقدّم هذا المسار ما تزال قائمة، وتتمثّل بمطالبة نظام دمشق – بدفع إيراني – بانسحاب تركي كامل من الأراضي السورية كشرط سابق لأيّة خطوات تطبيعية بين دمشق وأنقرة، وهذا ما ترفضه تركيا مع استمرار قيام كيان (الإدارة الذاتية) بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يحظى بدعم كامل من الولايات المتحدة الأميركية، على الحدود الجنوبية لتركيا.
ما يمكن تأكيده أيضاً أن اللجنة الدستورية التي تعتبرها المعارضة الرسمية السورية قارب الخلاص، لم تحقق أيّ منجز في جميع لقاءاتها السابقة، بل يمكن التأكيد على أنها لم تبدأ بنقاش جدّي حول مسائل الدستور، وبات واضحاً أنها – بالنسبة إلى نظام الأسد – ليست سوى سبيل من سبل المناورة والخداع واستثمار الوقت، ومحاولة لمشاغلة المجتمع الدولي وإيهامه بأن حكومة الأسد تشارك بالفعل في العملية السياسية المنبثقة عن المرجعيات الأممية، أمّا بالنسبة إلى وفود المعارضة السورية، سواء في هيئة التفاوض، أو في مسار أستانا، فإنها تدرك جيداً أن المآلات المرجوة من حصاد اللجنة الدستورية – إن كان ثمة حصاد – فلن تخرج عمّا يريده الروس من القرار 2254، أعني مصالحة مع نظام الأسد تتخذ من القرار 2254 غطاء شرعياً فحسب، دون الاقتراب من مضامينه ذات الصلة بهيئة حكم انتقالي، ولعل هذا ما يُفهم من تصريح وزير الخارجية التركي السيد حاقان فيدان قبل أيام من انعقاد أستانا (21) إذ أكّد أن ما تسعى إليه تركيا في الوقت الراهن هو إجراء تسوية بين النظام والمعارضة في سوريا.
ثمة حراك شعبي سوري قائم في مشهدين: يتجلى الأول في الحراك الشعبي المستمر منذ شهر آب الماضي في السويداء، ويتجلى الثاني في الحملة الكبرى التي جسدتها قوى شعبية وطنية حول قضية المعتقلين في سوريا
لعله من الصحيح أن ثمة تأكيداً من جانب وفود المعارضة السورية على أن حراكها الأخير في باريس وأستانا انطوى على ملفات أخرى، كقضية المعتقلين والمُهجّرين وضرورة وقف استهداف النظام للمدنيين والحراك الشعبي في مدينة السويداء، إلّا أن الحضور الفعلي لهذه القضايا – وكما في اللقاءات السابقة – كان هامشياً بل باهتاً قياساً إلى ما تقرره الدول الراعية من أمور تخص مصالحها أو أجنداتها، فضلاً عن أن القضايا التي تجسّد الوجع الحقيقي للسوريين لا تستقيم مع اللهاث وراء اللجنة الدستورية التي يكاد يجمع السوريون على خوائها وعبثية سيرورتها.
بموازاة المساعي التي تقوم بها الأطراف الرسمية للمعارضة سواء في هيئة التفاوض أو جماعة أستانا، كان ثمة حراك شعبي سوري قائم في مشهدين: يتجلى الأول في الحراك الشعبي المستمر منذ شهر آب الماضي في السويداء، ويتجلى الثاني في الحملة الكبرى التي جسدتها قوى شعبية وطنية حول قضية المعتقلين في سوريا، والتي ساهم بإحيائها اتحاد التنسيقيات في الداخل السوري وخارجه، وبمشاركات واسعة من قوى وأحزاب ومنظمات ونقابات وشخصيات وطنية، وقد حظيت هذه الحملة باهتمام عالمي واسع وشملت عواصم ومدناً كثيرة في العالم، ولو كانت الرغبة والإرادة متوفرة لدى المعارضات الرسمية بالتماهي مع هذين الحراكين لكان أجدى لها من استجداء القاتل الروسي ليكون حكماً مُنصفاً.