ثمة جملة تتردد حاليا في وسائل التواصل الاجتماعي يتركها أشخاص سوريون أو عرب ردا علي منشورات أو تعليقات تتحدث عن أخطاء ترتكب حاليا من قبل حكومة تصريف الأعمال، وتتناقض مع ما يطلقه أحمد الشرع، قائد العمليات القتالية لهيئة تحرير الشام التي سيطرت على الحكم بعد فرار الأسد، في مقابلاته مع وسائل إعلام دولية وعربية، ويقدم فيها رؤية متجاوزة للمنظومة الفكرية الجهادية التي عرفت عن جبهة النصرة قبل أن تصبح هيئة تحرير الشام، وتتمايز أيضا عن الآلية التي يتم بها، حتى الآن، حكم مدينة إدلب التي انتقلت حكومة الإنقاذ فيها إلى العاصمة دمشق؛ الجملة تقول بما معناه" إن الأغلبية هي من تقرر شكل الحكم ومجريات الحياة، والأغلبية في سوريا هي أغلبية مسلمة سنية، وبالتالي على الجميع الخضوع لإرادة الأغلبية".
مبدئيا هناك سوريون كثر يؤمنون بهذه النظرية، أقصد نظرية حكم الأغلبية، وهي ما يطبق في الدول ذات الأنظمة الديموقراطية، على أن أغلبية تلك الدول هي أغلبيات حزبية لا دينية ولا مذهبية. بمعنى أن حزب ما يضم بين أفراده شرائح مختلفة من المجتمع ومن خلفيات دينية ومذهبية وعرقية وطبقية مختلفة. مخرجات ما ينتج عن هذا الحزب من مبادئ هو نتيجة خلاصات لاتفاق الأغلبية فيه، فإن استلم الحكم سوف يقر مبادئه، لكن هذه المبادئ يجب أن يوافق عليها البرلمان أولا، والبرلمان هو ممثل المجتمع بكل فئاته وبكل أحزابه.
بمعنى أن الحزب الحاكم لا يستطيع الانفراد بقرار يتعلق بالشؤون الداخلية التي تمس حياة المواطنين اليومية، وحتى بالقرارات السياسية الكبرى المتعلقة بتحالفات الدولة وأمنها القومي دون الرجوع إلى المرجعية الأولى وهي البرلمان.
أيضا، يمكن للأغلبية ذاتها أن تعدل قراراتها بعد عدة أيام أو تغيرها تماما بناء على توصيات البرلمان أو على المصلحة العامة للدولة والمجتمع. هناك آليات دستورية ناظمة لكل سلوك يمارسه الحزب الحاكم، كما أنه، وهنا أكثر أهمية، لا يوجد في المجتمعات الديمقراطية ما يسمى أغلبية دينية أو عرقية ولا توجد أقليات مذهبية أو إثنية، الجميع مواطنون لهم الحقوق نفسها وعليهم الواجبات نفسها. لا تمييز في هذا لعرق أو لجنس أو لدين أو للون.
والحال إن ما سبق هو بديهيات في أدبيات العمل السياسي وفهم الآليات السياسية الديمقراطية. لكن في بلد مثل سوريا، تم فيه إعدام كل النشاطات السياسية، الفردية والجمعية، يبدو من الضرورة أولا، استعادة المجال العام للعمل السياسي وتنشيطه، وثانيا، استخدام المفكرين والنخب السياسية لوسائل التواصل الاجتماعي لتبسيط مفاهيم الديمقراطية وآلياتها والحديث عن شروطها ومساحاتها، وما يناسب مجتمعنا منها. ذلك أنه، وللأسف، لم يصل السوريون يوما إلى مرحلة المواطنة التي تمكنهم من وعي مالهم وما عليهم كمواطنين، إذ سيطرت عقلية المحسوبيات القبلية والعائلية والمذهبية على المجتمع السوري بفعل سياسات الإقصاء التي مارسها نظام الأسد وحزب البعث منذ استلامه السلطة في سوريا. تحول المجتمع السوري مع هذه السياسات إلى مجتمع ينتمي إلي ولاءات متعددة تفرض هويات ضيقة أسهمت في القضاء على الهوية الوطنية الجامعة. وهو ما ظهر في بداية ثورة 2011 من انقسامات مجتمعية خطيرة أوصلت سوريا إلى حافة الحرب الأهلية.
يبدأ نقض فكرة (إن الأغلبية السورية تفرض ما تريد لكونها أغلبية) من سوء فهم طبيعة الأغلبية السورية (السنية)، ذلك أن هذه النظرية تتعامل مع الأغلبية بوصفها كتلة واحدة ومتجانسة، وهذا خطأ فادح وتجاوز للواقع ولوي حقيقته. الأغلبية السنية السورية هي طبقات مختلفة ومتعددة وشديدة التنوع، وتفاديا للخوض في البعد المذهبي لنسمي الأكثرية بالمسلمة، فالإسلام المديني السوري لا يشبه الإسلام الريفي السوري، لا يعني أن أحداً من الإسلاميين يتفوق على الآخر، بل هما فقط مختلفان ولكل منهما خصائص تميزه رغم كل الانزياحات الثقافية (اقتصادية واجتماعية) التي طرأت على المجتمع المديني والريفي والتي غيرت في خصائص كل منهما خاصة بعد 2011 حيث أسهم فائض العنف الذي وجه نحو مناطق الريف والمدن البعيدة عن المركز في التمسك بالهوية الدينية التي أصبحت هي الهوية الوحيدة التي تشكل مصدر النجاة من الفراغ الهوياتي الذي أمعن فيه نظام الأسد وحلفاؤه الطائفيون. هذا التمسك تحول مع دخول الفصائل الجهادية على خط الحدث إلى تشدد وانغلاق ظهر في نمط الحياة في المناطق المحررة وفي محاولة إسكات ناشطي تلك المناطق الرافضين لفرض ذهنية التطرف والتشدد، هذا يظهر أيضا حاليا على وسائل التواصل لدى أي نقاش عن شكل الدولة السورية المستقبلية.
في المقابل ثمة إسلام مديني يميز المدن والحواضر الكبيرة في سوريا يمكننا أن نسميه إسلاما محافظا لكنه ليس متطرفا ولا متشددا، تعزز وجوده في المدن الكبرى بعد عام 2011. وبين هذا وذاك خرج مسلمون في التغريبة السورية إلى كل دول العالم واحتكوا بمجتمعات جديدة وثقافات أخرى، وواجهوا ليبرالية ما بعد حداثية تركز على الحريات الفردية وعلى تغييرات لمفاهيم وبديهيات جندرية صادمة، هذا الاصطدام خلخل الكثير من الثوابت الدينية لصالح رحابة في الرؤية وفي التعاطي مع الهوية الإنسانية ضد الهويات الأصغر والأقل اتساعا.
أيضا، من يعرف المجتمع السوري سوف يدرك أن العلمانيين واللادينين السوريين هم في غالبيتهم العظمى من الأكثرية المسلمة، على عكس ما يظهر على السطح من أن الأقليات الدينية والمذهبية هي التي تشكل صيانة للمجتمع من التطرف بسبب سلوكها الاجتماعي. لكن الحقيقة مختلفة، فالأقليات السورية منفتحة اجتماعيا نعم لكنها مؤمنة بعقائدها إلى حد كبير، هي تسلك في حياتها اليومية سلوكا يبدو علمانيا لكن عقائدها راسخة وثابتة، ولو كانت تلك العقائد متشددة لكان سلوك أبنائها متشددا. تلجأ الأقليات عموما إلى التمسك بهوياتها الدينية والمذهبية نوعا من الحماية من التماهي مع الأكثرية. هذا سلوك نفسي للدفاع عن الحيثية الوجودية للأفراد المختلفين وللمجموعات المختلفة. لهذا نادرا ما نجد مساهمة للأقليات في أي مجتمع، في عمليات التغيير الكبرى، التغيير تقوم به الأكثرية مع أفراد من الأقليات، لأن التنوع الذي في الأكثرية، خصوصا إذا كانت غالبة كما في سوريا، يساعد على نشوء أفكار ونظريات وحراك يكون هو نواة التغيير.
باختصار، يمكن القول بما لا يعطي مجالا للشك إن تركيبة الأكثرية المسلمة في سوريا تسقط هي ذاتها نظرية "أن الأغلبية المسلمة في سوريا تفرض ما تريده من شكل الدولة أو من قوانينها أو دستورها". التي يتبناها حاليا كثر في ردهم على أي انتقاد لسلوك حكومة تصريف الأعمال الحالية التي تصدر قرارات ليست من اختصاصها وليست قانونية ولا دستورية. أو حتى تتبناها هيئة تحرير الشام بحكومتها الحالية. فعن أي أكثرية نتحدث؟ وهل المنظومة الفكرية لهيئة تحرير الشام هي المنظومة الفكرية لكل مسلمي سوريا في الداخل وفي الخارج؟ وهل يساعد فرض هذه المنظومة (الإقصائية خصوصا للمرأة) على المجتمع السوري في تحقيق الاستقرار والأمن والازدهار الاقتصادي والتنموي الذي لا يمكن إنجازه دون تشاركية كاملة من كل فئات المجتمع؟ هل سيقبل المستثمرون (وهم من مختلف التوجهات) فرض رؤية واحدة متشددة علي المجتمع السوري؟ هل سيقبل المجتمع الدولي بهذا أيضا؟ والأهم هل سيقبل السوريون، نخبا سياسية وثقافية وفنية واقتصادية، هذا النمط، وهم في غالبيتهم من الأكثرية المسلمة السورية؟
في ظني أن مشروع أسلمة سوريا، إن كان واردا في ذهن الهيئة وقائدها، سوف يصطدم أولا بالمجتمع السوري المسلم الذي سيكون هو السد في وجه مشروع كهذا، ليس كرها بالإسلام حتما، لكن لأن المجتمع السوري في أصله مجتمع مدني، والإسلام السوري إسلام مدني، ما إن تنتفي الأسباب التي حولت بعضه إلى متشدد حتى يعود إلى طبيعته المعتدلة المحبة للحياة. لن تنجح مشاريع أدلجة سوريا مجددا بلون واحد على طريقة البعث البائد. لم تتمكن كل الفصائل الجهادية من فعل ذلك بمدينة شبه متجانسة مثل إدلب، لطالما وقف ناشطو وناشطات إدلب في وجه هذه المشاريع، ولن يتمكن أحد، حتى لو بقوة السلاح، من فعل ذلك بسوريا كلها.