لم تعد الأبعاد الدينية خافية في الصراع الذي أجَّجته الحرب العدوانية على غزة، وهو لم يكن مضمرًا قبلها، وتحديدًا منذ تشكَّلت حكومة بنيامين نتنياهو، بوزيرين بالغي التطرف، هما إيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش، بتصعيد خطير في المسجد الأقصى، ولم تسلم الكنائس وأتباعها؛ ليعزِّز ذلك الانفراد الصهيوني الديني المتطرف بالقدس؛ ليعزز تهويدها، والتقدُّم الحثيث في فرْض السيادة الاحتلالية عليها، وكنَّا شهدنا تحوُّلا لافتًا ودالًّا، حين أخفقت حكومة الاحتلال، برئاسة نتنياهو، يوليو/ تموز 2017، في تمرير قرار البوابات الإلكترونية على المسجد الأقصى، حين خلُصَ جسُّ النبض الاحتلالي إلى أن الإصرار عليها سيفجّر الحالة، في وقت غير مناسب، وغير ناضج؛ فأُجبِرت على التراجع عنها.
وهذه الأيام، ونحن على أعتاب شهر رمضان، يزداد الاتجاه نحو الاستفزاز الخطير، بالحدّ الكبير من الأعداد المسموح لها بالصلاة في المسجد الأقصى.
لعلّ الدافع هو الاستمرار في الحفاظ على الزخم المُنجَز من الانتهاكات اليومية، وبأعداد متزايدة من اليهود المتطرفين المنادين بإقامة الهيكل، والإجهاز على المسجد الأقصى، بوضعه الراهن. وقد تكون التقديرات أن الوقت مناسب لتثمير الحرب على غزة، بعد إنهاك لا يدفَع ألمَّ بحركات المقاومة، وحركة حماس، والحالة الفلسطينية عمومًا، في ظروف شديدة الضيق في الضفة الغربية، من حيث إحكام السيطرة الأمنية، وفرْض المزيد من الحواجز، وعسكرة الضفة الغربية، بزيادة منسوب الردود التي يمارسها جيش الاحتلال، في مناطق المقاومة، كما في جنين ومخيمها، وطولكرم ومخيميِّها، دون ظهور علامات اكتراث، أو نيّات نحو الاستجابة للمواقف الأميركية المطالبة التزام قيود أكبر، سواء من الجيش، أو من المستوطنين، حتى بعد فرض عقوبات أميركية، على قادة من المستوطنين، والتلويح بفرْض عقوبات تالية على قادة في الجيش، في حال ثبت تقاعسُهم عن كفّ اعتداءات المستوطنين على أرواح الفلسطينيين وممتلكاتهم.
هذه النسخة الأحدث من الاحتلال، الأكثر سفورًا، والأقل تحسُّبًا لاعتبارات أوسع من عقلية قادة المستوطنين الضيقة، تستخفّ بتحذيرات (مهنية) تراعي في المقام مصلحة دولة الاحتلال
ولا يخفى أن الجيش ومجمل أجهزة دولة الاحتلال تخضع، هذه الفترة لمزيد من التدخُّل من وزير الأمن القومي بن غفير، ووزير المالية المشبَع بروح استيطانية إقصائية، سموتريتش، هذا التدخُّل المتزايد ينتقص، بالطبع، من صلاحيات قادة الجيش وأجهزة أمنية أخرى كجهاز الأمن العام (الشاباك)، ويقرّب جيش الاحتلال مسافة أقرب من ممارسات المستوطنين، وفكرهم، حيث في مواقع كثيرة يوفر لهم الغطاء والحماية، حتى يفرغوا من اعتداءاتهم.
هذه النسخة الأحدث من الاحتلال، الأكثر سفورًا، والأقل تحسُّبًا لاعتبارات أوسع من عقلية قادة المستوطنين الضيقة، تستخفّ بتحذيرات (مهنية) تراعي في المقام مصلحة دولة الاحتلال، على الصعيد الدولي، وعلى صعيد القانون الإسرائيلي، كما ظهر، مثلًا، في رفْض البؤر الاستيطانية غير القانونية، وفي منطلقات الجيش بوصفه مؤسسة لها مرجعياتُها السابقة على اعتبارات المستوطنين المتعجِّلة والمستهترة، والسافرة في استباحة أرواح الفلسطينيين ووجودهم.
هذا الجيش يقرِّر خطواته بناء على رؤية سياسية، مصاحِبة، وبناء على تقديرات ردّات الفعل، بناء على تقارير عن الحالة الفلسطينية، من جميع الجوانب، تقريبًا، الاقتصادية، والنفسية، والفكرية. وبالنظر للمرحلة الحالية بوجود حلفاء نتنياهو من أقصى اليمين، ومقارنتها بمرحلة سابقة، نلحظ أن حالات الاصطدام بين الجيش والمستوطنين تراجعت، إلى درجة كبيرة، لصالح إطلاق يد المستوطنين.
والعقلية الغالبة الآن على السياسة الاحتلالية هي عقلية الإرغام الصريح، وتغذّت هذه الأخيرة، بالحرب مع حماس وفصائل المقاومة، بعد عملية طوفان الأقصى التي رفعت درجات التديُّن، السياسي، في إسرائيل، وقلّصت مساحات الدعاوى السلمية، أو ما يسمى بمعسكر السلام.
وفي هذا السياق، كشفت نتائج الاستطلاع الأول، الذي نشرته صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية، مؤخرًا، وأجراه «معهد د. مناحيم ليزر»، أن 33 في المئة من المواطنين اليهود ذكروا أن إيمانهم بالله زاد بسبب الحرب، "أما على الصعيد السياسي، فقد تجلَّت زيادة التطرُّف اليميني، في نتائج الاستطلاع الأسبوعي الذي تنشره صحيفة «معاريف»، واتضح منها أن كلًا من حزب «الليكود» برئاسة نتنياهو وحزب «المعسكر الرسمي» برئاسة بيني غانتس، خسر من قوته. والحزب الذي ازدهر تمامًا هو حزب «العظمة اليهودية» بقيادة بن غفير، الذي يتمثل، وقت إجراء الاستطلاع، في الكنيست، بستة مقاعد، وتمنحه الاستطلاعات 10 مقاعد.
وقد تكاثرت التحذيرات الرسمية العربية من إمعان إسرائيل في هذه السياسة التي تتجاهل الوجود الفلسطيني واستحقاقاته، من ذلك ما ورد على لسان الأمير فيصل بن فرحان، وزير الخارجية السعودي، وفق ما نشرت صحيفة الشرق الأوسط، من أن مقاربة إسرائيل للحرب الدائرة في غزة "لا تزيد من أمنها بل تزيد الخطر عليها". وقال الأمير فيصل في جلسة حوارية في مؤتمر ميونيخ للأمن، إن «الرد المفرط» لإسرائيل في غزة "سيؤدي إلى احتدام المشاعر"(...) المأساة التي نشهدها مسألة تحشد كثيراً من الانفعالات، وفيها مخاطرة بإعادة تنشيط الرسالة لدى البعض في العالم العربي، بأن التعايش غير ممكن».
وبعد ذلك، أوردت صحيفة "العربي الجديد" أن مصادر مصرية كشفت عن تحذيرات
مصرية لأميركا وإسرائيل من خطورة المساعي الإسرائيلية لمواصلة حرب غزة، خلال شهر رمضان (10 مارس/آذار المقبل) وذكر أحد تلك المصادر أن "المسؤولين المصريين أكدوا، خلال تلك الاتصالات، أن استمرار العمليات العسكرية، بشكل عام، وشنّ عملية واسعة في رفح، خلال رمضان، سيضع المنطقة برمتها على فوهة بركان، وأن خطورة ذلك لن تكون على إسرائيل فقط، ولكن على جميع دول المنطقة".
من شأن هذا الوضع الذي يبدو فيه نتنياهو أكثر تماهيًا مع وزيريه المتطرفين، أن يغذِّي التساؤلات عن المصلحة الأميركية في استبقاء هذه العلاقة الفريدة والاستثنائية بإسرائيل
هذا، ولا يخفى الامتعاض الأميركي، في عهد الرئيس الأميركي جو بايدن من اشتمال حكومة نتنياهو على هذين الوزيرين المتطرفين، بن غفير وسموتريتش، (إذ يبتعدان ومعهما نتنياهو بإسرائيل عن الصورة التي تعرفها، وتستبقيها أميركا والغرب عمومًا، من حيث الصبغة الديمقراطية)، وهما اللذان لا يهتمَّان بالتوافق مع الإدارة الأميركية، بل يعربان، في العلن، عن إصرار، يصل أحيانًا حدَّ التحدي، يقدِّم ما يريانه مصلحة إسرائيل على المقاربات والمواقف الأميركية، ولو كانت الأخيرة إنما تراعي فيها مصلحة إسرائيل، لتضاف إلى الموقف المعهودة للإدارات المتعاقبة، في تقديم دعم يكاد يكون غير مشروط لإسرائيل، سواء من الناحية العسكرية، أو الاقتصادية، أو الديبلوماسية، كما توفِّر لها الغطاء الدولي الحامي، ولا سيما في مجلس الأمن، ولدى تعرّض دولة الاحتلال إلى المساءلات القانونية، أو المحاكمات الدولية، كما يجري، في محكمة العدل الدولية الناظرة في اتهام إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية.
ومن شأن هذا الوضع الذي يبدو فيه نتنياهو أكثر تماهيًا مع وزيريه المتطرفين، أن يغذِّي التساؤلات عن المصلحة الأميركية في استبقاء هذه العلاقة الفريدة والاستثنائية بإسرائيل، في وقت تزداد فيه صورة إسرائيل، على خلفية مجازرها الرهيبة في قطاع غزة، على المستوى الدولي، وفي أوساط أميركية، طلّابية، وشبابية، وأكاديمية، وغيرها، تزداد قتامة.
ولِتغذِّي هذه الحالة أطروحات حذرت من تأثير اللوبي الإسرائيلي الضارة بأميركا، كما فعل جون ج. ميرشايمر وستيفن م. والت في كتابيهما " اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية" الذي ترجمه أنطوان باسيل، وصدر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، إذ جاء في الكتاب: "نجح اللوبي الإسرائيلي في إقناع كثير من الأميركيين بأن المصالح الأميركية والإسرائيلية متطابقة أساسًا، وهي في الواقع ليست كذلك".
ويصبح هذا التوجُّه نحو الحدّ من التماهي مع دولة الاحتلال أقربَ إلى المراعاة في عالم اليوم الذي تفقد فيه الولاياتُ المتحدة بعض نفوذها وتفرُّدها العالمي، مع تصاعد المنافس الصيني، والروسي، وطموحات البلدين المنافسين المتزايدة في المنطقة العربية والإسلامية، وهي منطقة حيوية، إستراتيجية، سريعة التقلُّب، فثمَّة حدٌّ للمغامرة بصدقية أميركا، على صعيد الاتساق بين شعاراتها ومرتكزاتها للتدخُّل، على الصعيد الإنساني، والحقوقي، في وقت تتعامى فيه عن تلك الحالة الاحتلالية النافرة، سواء في الأقوال، حيث تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، أو في الممارسات المفرطة القوة، والعقوبات الجماعية الممنهَجة.