يمكن اعتبار أوكرانيا رمزا من رموز الهزيمة في الحرب الباردة التي تلقتها روسيا السوفييتية بداية تسعينيات القرن الماضي، وكان سباق قد بدأ بالفعل مع تحول المعارك في الحرب العالمية الثانية لمحاربة الألمان، فتحرك الجيش الأحمر السوفييتي بالسرعة القصوى لوضع يده وعقائده على كل المساحة التي يمر عليها، وكانت أوكرانيا قد خضعت بالفعل لهيمنة روسية السوفييتية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، ولكن كل ذلك انتهى بانهيار النظام الشيوعي الذي أسقط معه كل ما كان يتعلق بالسوفييت، بما في ذلك أوكرانيا، التي حصلت على استقلالها وحددت نظامها السياسي الخاص.
بقيت روسيا متربصة بإرثها القديم كله، وقد منعها الضعف الذي عانت منه، طوال العقد الأخير من القرن الماضي، من أية محاولة لاستعادة ما خسرته بالفعل، لكن مجيء فلاديمير بوتين إلى السلطة، ونجاحه في التمسك بها طوال الفترة الماضية، مع تكرار مقولة أنه يقود نظاما ديمقراطيا، زحزح المشهد، فقد عبّر بوتين بسلوكياته المتنوعة عن رغبته في استعادة ما خسره الشيوعيون من أراضٍ، تلك التي كانت تقع ضمن نظام السوفييت، ومنها جمهوريات البلطيق الثلاث، بالإضافة إلى أوكرانيا التي تقع على الخاصرة الغربية لروسيا.
تخشى روسيا اليوم أن تتحول أوكرانيا إلى خط مجابهة ساخن مع الناتو، إذا ما توصلت إلى نيل عضويته
يلعب التاريخ والجغرافيا السياسية دورا لصالح بوتين، فلطالما كانت أوكرانيا تقع ضمن السيطرة الروسية، وتخشى روسيا اليوم أن تتحول أوكرانيا إلى خط مجابهة ساخن مع الناتو، إذا ما توصلت إلى نيل عضويته، ويسوق بوتين مخاوفه بهذا الشأن، ويمانع قيام أية صلة بين الناتو وأوكرانيا، بتحريك خلايا خلق الفوضى في الداخل الأوكراني، وقد نجح في دعم انفصاليين في إقليم الدونباس الواقع على الحدود بين الدولتين، وحشد قواته بالقرب من أوكرانيا، حتى بلغ تعدادها رقما يوحي بنية الغزو، ولكن ما يخشاه بوتين بالفعل، هو النظام السياسي الذي تبنيه أوكرانيا، والذي يعكس ديمقراطية حقيقية، يعبر فيها الناس بحرية كاملة عن توجهاتهم السياسية، ما قد يهدد سلطة بوتين بانتقال هذه العدوى إليه، ومثل هذا النوع من العدوى مرشح للمرور بسهولة، نظرا لحالة الحريات المتردية في روسيا، وقد يساعد الاقتصاد الروسي المتهاوي في خلق المتاعب لبوتين في شوارع موسكو، فحاجة بوتين لكييف حاجة تكاد تكون وجودية لذلك نجده يتمسك بإبقائها تحت نظره، وإن اضطر إلى استخدام قواته المسلحة، بما يحمل ذلك من أخطار كبرى على أوروبا كلها.
يعرف الغرب وأميركا بالتحديد أن روسيا لم تعد دولة عظمى، فقد ولت عهود الإيديولوجيا التي مكنت لروسيا السوفييتية من أن تمد يدها إلى أماكن بعيدة عنها، وقد وصلت فيما مضى إلى حدود أميركا ذاتها، فيما عرف حينها بأزمة صواريخ كوبا، والخطورة التي تمثلها روسيا هي خطورة أمنية فقط، بامتلاكها لترسانة نووية كبيرة، موزعة على رقعة جغرافية شديدة الاتساع، يمكن أن تشكل أخطارا وتهديدات على كل أوروبا، ومناطق شاسعة من آسيا، ويمكن لها أن تثير القلق بتحريك قواتها وإظهار ذلك إعلاميا، والغرب وأميركا يسعيان إلى السيطرة على مساحة الخطورة التي يتحرك فيها بوتين، وذلك بضم أوكرانيا وجورجيا أيضا إلى حلف الناتو، ونشر أسلحة ومحطات إنذار مبكرة تعطي مزيدا من الوقت للناتو للاستعداد أو الرد، وتريد الاقتراب أكثر من موسكو حتى يكون الكرملين على مرمى حجر، فتصبح قادرة على زعزعة استقرار بوتين السياسي والتخلص من عقبة عنيدة ومستعصية، ليتم الانتهاء تماما من ملف الحرب الباردة الذي ما زال وجود بوتين يبعثه حيا.
لدى بوتين من القوة العسكرية ما يجعله قادرا على إثارة الشغب والقلق، وهو غير مضطر لنقل قواته بعيدا، فأوكرانيا على تخوم روسيا
يعرف بوتين أن الناتو متردد عسكريا تجاهه، ويعرف انكفاء جو بايدن، الذي أكملت قواته الانسحاب من أفغانستان للتو، ولدى بوتين من القوة العسكرية ما يجعله قادرا على إثارة الشغب والقلق، وهو غير مضطر لنقل قواته بعيدا، فأوكرانيا على تخوم روسيا، ولديه اليد الطولى في إقليم الدونباس الذي توجد فيه مجموعة كبيرة من المؤيدين لروسيا، وهو يلعب بعض الأوراق التي يعتقد بأنها ستربح في ظل الظروف الحالية، ولكن سواء حدثت الحرب أم لم تحدث، فلن تحل مشكلة بوتين مع الغرب، أو مشكلة الغرب مع بوتين، ولن يتعدى الأمر سوى التأجيل، انتظارا لظروف أخرى، أما ويلات الحرب إن حدثت، فسيتحملها المواطن الأوكراني وكذلك الاقتصاد الروسي، ومع ذلك سيكسب بوتين "نصرا" قوميا يساهم ببقائه مدة جديدة.