عشنا جميعاً لحظات إعلان أبي بكر البغدادي نفسه خليفة على المسلمين في المسجد الكبير في الموصل بتاريخ: 4/ 7/ 2014، وعايشنا جميعاً تقلبات هذا التنظيم وتطورات أدائه. هذا الأداء الذي كانت تنزّ منه أفكار التنظيم فنلمسها وندركها من دون رجم ولا تخمين، ثم عشنا جميعاً إعلان خبر مقتله في 27/10/ 2019، وأدركنا كذلك أنه إذا كانت {العاقبة للمتقين} فإن الفاجعة الوخيمة للمتهتكين.
ولأن فرض المحال ليس بمحال أجيز لنفسي هذا السؤال (ماذا لو كان علي عزت بيجوفيتش خليفة داعش)، وأحاول الإجابة عنه لغاية ستبدو في تلافيف المقال.
ما يجمع بين أبي بكر علي عزت بيجوفيتش وأبي بكر البغدادي أنهما عاشا في بلدين محتلين، في فترتين متقاربتين، وأنهما أعلنا الجهاد وسيلة تحرر، وأنهما كانا لا يؤمنان بالعلمانية، بل يؤمنان بأن الإسلام نظام شامل، ولكن ما فرّق بينهما كان أكثر مما جمع على مستوى الفهم والتنظير والممارسة والأداء، وقد يرى كثير من الناس إجحافاً فيما أعقده الآن من مقارنة، وأنا معهم في ذلك، ولكن ما حيلتنا إذا كان الضد لا يظهر حسنه بدون مقارنة مع ضده، فنحن نقارن لنفرّق، ونقارب لنميّز.
ولد علي عزت بيجوفيتش سنة 1925 في مدينة كروبا البوسنية من أسرة مسلمة عريقة. وتعلم في مدارس سراييفو، والتحق بجامعاتها وحصل على شهادات عليا في القانون والآداب، واهتمّ باللغات الأوروبية فأتقن الألمانية والإنكليزية والفرنسية. وقرأ معظم الأعمال الفلسفية الأوروبية المهمة وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة من عمره.
حُكم عليه سنة 1948 بالسجن خمس سنوات مع الأشغال الشاقة بتهمة الانضمام إلى جمعية الشبان المسلمين، وبعد خروجه منه عمل محامياً، وفي غضون ذلك أقام صلة مع جمعية العلماء الرسمية، وبدأ ينشر مقالاته في مجلتها
عانى في سجن فوتشا ذي الجدران العالية والقضبان الفولاذية من نقص في المكان وفائض في الزمان، ومُنع من الكلام، لكن هيهات أن يُمنع من التفكير
المسماة (تاكفين) في عقدي الستينيات والسبعينيات، متناولاً موضوعات في الثقافة والأخلاق والنهضة من منظور إسلامي، وكان لهذا الانفتاح على جمعية العلماء أهمية كبرى، فقد استطاع إيصال فكره إلى خمسين ألف مسلم من قراء المجلة.
قام ابنه بكر بجمع سلسلة من مقالات أبيه في كتيب، ووضع له عنواناً هو (الإعلان الإسلامي)، فأثار الكتاب ضجة إعلامية كبيرة في يوغسلافيا، واستُغلّ استغلالاً ظالماً ضد مؤلفه، فسيق إلى المحكمة سنة 1983 مع ثلاثة عشر من أصدقائه المثقفين المسلمين بتهمة التمرد والقيام بأعمال مضادة للنظام، وحُكم عليه بالسجن مدة إحدى عشرة سنة.
عانى في سجن فوتشا ذي الجدران العالية والقضبان الفولاذية من نقص في المكان وفائض في الزمان، ومُنع من الكلام، لكن هيهات أن يُمنع من التفكير، وعندما نقرأ سجل تفكيره الذي دوّنه في مذكراته (هروبي إلى الحرية) نقرأ ألواناً من الجرأة والابتكار تتجلى في إهاب من التماسك والأصالة، ومن وراء قضبانه نسمع صوته خافتاً متطامناً: "بين الحزن واللامبالاة سأختار الحزن"، وبضغط من جمعيات حقوق الإنسان لم يقضِ هو وصحبه من هذه المدة سوى ستة أعوام فقط، ثم استُؤنفت المحاكمة مرة أخرى سنة 1989 فبرأتهم المحكمة وردت إليهم اعتبارهم.
وعندما انهار الاتحاد السوفييتي بدأت صفحة جديدة من حياته، وتحققت توقعاته بانهيار النظم الماركسية الاستبدادية، فأنشأ حزب (العمل الديمقراطي)، وخاض به انتخابات البوسنة، فهزم الحزب الشيوعي وغيره من الأحزاب الأخرى، وتولى رئاسة جمهورية البوسنة سنة 1990.
وبعد سنة بدأت الحرب بين صربيا وكرواتيا بعد أن وضع ميلوسفيتش يده على ميزانية يوغسلافيا وأنفقها على صربيا وحدها، ثم اجتاحت جيوشه البوسنة واستولت على 70% من أراضيها، وبدأت المذابح الوحشية ومعسكرات الإبادة والاغتصاب، لاستئصال شأفة المسلمين من البوسنة، ولأن إبادة جميع المسلمين كانت مستحيلة لجؤوا إلى تقسيم البوسنة إلى ثلاث دويلات على أساس ديني: دولة صربية أرثوذكسية، ودولة كرواتية كاثوليكية، ودولة مسلمة.
وفي 6/16/ 1993 وجد رئيسا صربيا وكرواتيا في قصر الأمم المتحدة بجنيف أن خطتهما في تقسيم البوسنة قد تبنتها الأمم المتحدة فيما عرف باسم خطة (فاس ــ أوين)، وهي خطة تكافئ المعتدي على عدوانه، وتقر عمليات اقتلاع المسلمين من أراضيهم، لكن علي عزت رفض هذا التقسيم وغادر الاجتماع، واعتزل المفاوضات العقيمة، وعاد إلى سراييفو موقناً أن شعبه يقف وحده في معركة حياة أو موت، وأنّ عليه أن يشق طريقه بما يتوفر لديه من سلاح، وكان المبدأ الذي التزم به في تلك الظروف هو أن يفاوض حيث أمكن، وأن يقاتل حيث يتوجب عليه القيام بذلك. ونقرأ في سيرته الذاتية حديثاً عن تلك المرحلة: "لقد صُدم العالم صدمتين خلال هذه الحرب التي فُرضت علينا. لقد كانت الصدمة الأولى هي المقاومة، فلقد توقع عدونا والعالم كذلك أن تتم هزيمتنا بسرعة كبيرة، ولكن ما حدث هو أنّ مقاومتنا أخذت تزداد يوماً بعد يوم، ولقد نجحنا في إنقاذ حوالي 30% من أراضينا [...].
أما الصدمة الثانية فتتعلق بالجانب السياسي من كفاحنا، وحيث توقّع العالم أن نقوم بعمليات انتقام بسبب بشاعة الفظائع التي تم ارتكابها، وبسبب تحاملهم الكريه علينا، ولكن ذلك لم يحدث، بل على العكس فقد ثابرنا على المناداة بمجتمع ديمقراطي قائم على أساس من التسامح الديني والقومي، وبدا واضحاً أننا لسنا أناساً متطرفين ولا متعصبين. إننا نحافظ على هويتنا الإسلامية مع بقائنا منفتحين على كل ذي قيمة في الشرق والغرب معاً".
لقد ظن المجرمون أن عملية الإذلال الرهيبة التي تعرض لها مسلمو البوسنة كفيلة بأن تحوّلهم إلى شياطين، يقابلون القتل بالقتل، والاغتصاب بالاغتصاب، ولكم كانت فرحة هؤلاء الأعداء لتكون عظيمة لو أنّ بيجوفيتش وجنوده انصاعوا لردّات الفعل وتوجهوا لسبي النساء الصربيات أو الكرواتيات اللواتي صرن تحت سيطرتهم، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، بل لم يكن ليخطر على بال بيجوفيتش وجنوده.
لم يكن علي عزت علمانياً، بل كان يرى أن في الإسلام نظاماً شاملاً متكاملاً، وأنّ له خصائصه التي تحول بينه وبين العلمانية، وفي ذلك يقول: "لا مكان للعلمانية في ساحة الإسلام، لأن الإسلام نظام متكامل، وله خصائصه التي تقف حاجزاً بينه وبينها"، ولكنه عندما عدّد خصائص الإسلام وقف على تخوم العلمانية، ولا سيما في تحديده الوسائل المشروعة واللا مشروعة في سبيل إقامة هذا النظام (الإسلامي). وهنا يكمن الفرق الهائل بين قيادتين: قيادة أبي بكر علي عزت، وأبي بكر البغدادي، فمن أجل إقامة نظام إسلامي أجاز بيجوفيتش استخدام جميع الوسائل ما عدا وسيلة واحدة ألا وهي (الجريمة)، فلا أحد يملك الحق في تشويه وجه الإسلام، ولا الإساءة إلى الجهاد باستعمال العنف الجامح والإسراف في استخدام القوة، وفي ذلك يقول وكأنه
لقد كان علي عزت يؤمن بإمكانية التعايش بين جميع المواطنين على الرغم من اختلاف دياناتهم وقومياتهم في إطار وحدة وطنية قائمة على الحرية الدينية
يرد على البغدادي قبل أن يوجد البغدادي: "لقد أدى مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) إلى جرائم لا حصر لها، ولكن الغاية النبيلة لا يمكن الوصول إليها بوسائل دنيئة، كما أنّ استخدام الوسائل الدنية من شأنه أن يحط من قيمة أي غاية ويعرضها للخطر، وكلما قويت أخلاقنا قلت حاجتنا إلى استخدام العنف".
لقد كان علي عزت يؤمن بإمكانية التعايش بين جميع المواطنين على الرغم من اختلاف دياناتهم وقومياتهم في إطار وحدة وطنية قائمة على الحرية الدينية، ولذلك رفض تقسيم البوسنة على أساس ديني عرقي، والجبابرة الذين اتهموه بالأصولية والتعصب الديني والتطرف هم الذين حاولوا، بعد ذلك، إرغامه على قبول دولة مقتصرة على المسلمين مطهَّرة عرقياً ودينياً! ولكنه رفض وجاهد وثبت ونجح في دفاعه عن الحرية التي لم تكن مجرد قيمة من القيم أو فضيلة من الفضائل، بل كانت، بالقياس إليه، أم الفضائل وأس القيم، وشرط كل الشروط لكل دين أو أخلاق، أليس هو القائل: "الديكتاتورية غير أخلاقية حتى عندما تمنع الحرام، والديمقراطية أخلاقية حتى عندما تسمح به، فوحده السلوك الحر هو السلوك الأخلاقي".
توفي علي عزت في 19/ 10/ 2003، بعد أن قضى حياته في رحلتين: رحلة السياسة صابراً، ورحلة الفكر مبدعاً، وكان في كلتيهما مسلماً صوّر بسلوكه في حياته مطالبه الأخلاقية بغير توقف، فغدا بفضل ذلك أنموذجاً واقعياً لحجة بالغة على بني الإنسان:
محكومين: حين كان محكوماً من قبل نظام طاغٍ قاسٍ، فلم ييأس ولم يستكن، ولم يتخلَّ عن واجباته ومسؤولياته.
وحكّاماً حين غدا حاكماً، فلم يغيّر ولم يبدّل، ولم يبطر ولم يفجر، بل كان ذلك الوريث المحمدي المضمّخ عطاءً ورحمة.