تترقب الأوساط السورية منذ فترة الموعد الحاسم لبدء العملية العسكرية للسيطرة على بلدتي تل رفعت ومنبج والقرى المحيطة بها من سيطرة ميليشيا قوات سوريا الديمقراطية، في ظل توقعات وحديث عن تحضيرات عسكرية متواصلة، وقرب انطلاق هذه العملية، ومن المؤكد أن تلك العمليات العسكرية كما جرت العادة بحاجة إلى تحضيرات كبيرة ومهمة على عدة مستويات، ولعل أهمها توفير التوافقات السياسية الدولية، وإحداث التوازنات الدبلوماسية المطلوبة من أجل المضي قدما في العمل العسكري دون التفات إلى أي تهديدات أو عقوبات أو ضغوط داخلية وخارجية، قد ترتب تبعات تنغص على سير العمليات العسكرية.
ومما لا شك فيه أن التحضيرات الميدانية ليست صعبة في ظل الخبرات التي توافرت لقوات الجيش الوطني بالتعاون مع الجيش التركي، خاصة أن العملية تعتبرها تركيا الخامسة من نوعها بعد عمليات درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام ودرع الربيع، وبالتالي فإن بطء التحضيرات الحالية لا يعني أن العملية العسكرية بعيدة في موعدها، بل يمكن القول إنه في حال حصول التوافقات السياسية وحدوث التوازنات الدولية والتوافقات الدبلوماسية، فإن تسريع خطوات الحشد العسكري ستكون جاهزة ويمكن البدء بالعمل العسكري بأقرب وقت ممكن.
وهنا يمكن الحديث عن المحددات الأساسية للعمل العسكري والمتحكم فيها واللقاءات والاجتماعات المفصلية التي قد تخرج بقرار توقيت بدء تلك العمليات، وأهم هذه المحددات على الصعيد الدولي هي التوافقات مع الأطراف الفاعلة وهي روسيا وأميركا بدرجة أولى وبدرجة أقل إيران منعا للتصادم بين هذه القوى ميدانيا، هذه التوافقات بحاجة إلى توازنات تحاول تركيا الاستفادة منها على الصعيد الدولي نتيجة التطورات الحاصلة من أزمة الغذاء العالمي، والحرب الروسية في أوكرانيا، وتوترات الدول الأوروبية، ومصير حلف الناتو وتوسعته، والمحددات الأخرى مرتبطة على الصعيد المحلي وأبرزها الانتخابات المحلية، وتخفيف حدة التوتر الداخلي بموضوع اللاجئين السوريين، عبر دعم عودتهم لهذه المناطق التي نزحوا منها بعد السيطرة عليها وتوفير مزيد من الاستقرار والأمان فيها.
الاجتماعات التي حصلت في مدريد قادت تركيا إلى الموافقة على انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف، وهذا ما يعني أن تركيا لم تكن تعول على التوازن مع روسيا بالموقف من توسعة الناتو
وفي تفصيل هذه المحددات ومحاولة ربطها بالتطورات الدولية واللقاءات التي تجري، تتوجه معظم التحليلات إلى مقاربة الموقف الروسي وموافقته على العمل العسكري التركي الجديد بسوريا، بعرقلة أنقرة توسع الناتو وانضمام السويد وفنلندا إلى الحلف، وبقاء تركيا على الحياد فيما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات على روسيا، فيما تجري المقاربات على الموقف الأميركي بأن واشنطن حريصة على إبعاد تركيا عن روسيا وكسبها في حلف الناتو وفي العقوبات على روسيا، وهذه المقاربات وإن كان لها نصيب في الصحة ولكنها تتناقض أيضا بالوقت نفسه من الموقف التركي من الناتو بين موافقة وعرقلة أي بين إرضاء موسكو وإغضاب واشنطن أو العكس، ولكن الاجتماعات التي حصلت في مدريد قادت تركيا إلى الموافقة على انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف، وهذا ما يعني أن تركيا لم تكن تعول على التوازن مع روسيا بالموقف من توسعة الناتو.
ومن اللافت أنه قبيل اجتماع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنظرائه في السويد وفنلندا والناتو، كانت هناك اتصالات تركية أميركية، تجلت بمكالمة هاتفية بين أردوغان ونظيره الأميركي جو بايدن ولقاء لاحق، وتلا المكالمة الضوء الأخضر التركي بتوسعة الناتو، وهذا ما يقود ربما إلى ثمة توافقات تركية أميركية ربما حصلت تتعلق بهذا الإطار من بينها سوريا وملفات أخرى، ومن الواضح أن 3 عناوين رئيسية هي التي ناقشها الرئيسان إضافة للمواضيع الفرعية الأخرى، ومن العناوين الرئيسية العملية العسكرية في تل رفعت ومنبج، وموضوع ميليشيات قسد، وهذا ما يقود مجددا للحديث عن التوازنات التي يمكن لتركيا أن تبنيها مع روسيا لانتزاع التوافقات معها، في ظل احتراق ورقة توسعة الناتو، وفي ظل المأزق الروسي في أوكرانيا.
من الواضح أن الاجتماعات التي جرت في مدريد على هامش قمة الناتو، واجتماعات لاحقة منتظرة لتفعيل "معبر الحبوب" ونقل المحاصيل من روسيا وأوكرانيا مرورا بالبحر الأسود والمضائق التركية، وتأسيس مركز العمليات لهذا المعبر في إسطنبول، ستكون المحدد الأبرز للعمليات العسكرية الجديدة بتل رفعت ومنبج، بل وربما لتوسعة رقعة العمليات لتشمل شرق الفرات، وذلك أن هذه الاجتماعات ربما تقود بالفعل لإحداث التوازنات التركية المطلوبة للعمليات الجديدة، حيث أن الناتو حافظ على ترتيب البيت الداخلي ووسع من حدوده، كما جرى إرضاء أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، مقابل إرضاء روسيا والمجتمع الدولي بإنشاء معبر الحبوب وتبديد مخاوف روسيا بشأن العقوبات المالية المفروضة عليها، ومسألة تأمين السفن، ونقاط تفتيشها، وهنا يطرح التساؤل هل بالفعل حصلت التوازنات المطلوبة فيما يتعلق بهذه المقايضة بين روسيا وأميركا وتركيا؟ وهل تمكنت تركيا من إقناع أميركا بمسألة معبر الحبوب وهي مسألة تمس أمن الغذاء العالمي؟ فإن كان الجواب نعم على هذه التساؤلات، فنحن أمام حراك دبلوماسي تركي مكثف وناجح لتحقيق مكاسب عديدة على صعيد الناتو والعلاقة مع أميركا ومع روسيا والمجتمع الدولي، وبالوقت نفسه انعكاس ذلك على الساحة السورية.
الضوء الأخضر التركي داخل الناتو والتوافق مع السويد وفنلندا سيكون نموذجا لبقية الدول، ويعطي المشروعية بقتال التنظيمات الإرهابية، حيث وضع ميليشيا "قسد" في سوريا ضمن مصاف التنظيمات الإرهابية، وهو ما يريح يد تركيا في أي عمل عسكري مقبل ضدها دون أن تكون هناك تبعات لاحقة من حظر بيع السلاح أو انتقادات أو ضغوط، وبذلك تمت تهدئة الجبهة الأوروبية والغربية التي ترى في التهديد الروسي وأزمة الغذاء خطرا أكبر وهو ما يتطلب توسعة للناتو، وفي حال انعقاد اجتماع الآلية الرباعية لمعبر الحبوب، فمن المؤكد أن ذلك أيضا مؤشر لقرب إجراء العملية العسكرية، وزيارة وزير الخارجية الإيراني قبل أيام لتركيا والتصريحات الإيرانية بأن لتركيا الحق أن تكون بأمان، مؤشر أيضا لاحتواء الموقف الإيراني وميليشياتها المنتشرة بمناطق العمليات العسكرية المقبلة.
تسارع وتيرة الحشد الميداني سيكون مؤشرا قويا على قرب العملية العسكرية، والتوافقات التي ستجري بالأيام المقبلة مؤشر كذلك على مسار العملية وتوقيتها
وعلى الصعيد الداخلي ثمة حديث أن موعد العمليات العسكرية سيكون بوقت قريب من إجراء الانتخابات، لأهمية ذلك على أصوات الناخبين، حيث كانت المقاربات الأولى تشير إلى قرب الانتخابات مع قرب العملية العسكرية، أي أن الانتخابات بعد 5 أشهر، ومع غياب احتمال انعقاد الانتخابات التركية بوقت مبكر وفق التصريحات الرسمية، فمن الصعب القول والربط بأن موعد العملية العسكرية سيكون بعيدا، لأن الهدف من العملية العسكرية التركية الجديدة أساسا هو توفير الأمن للمناطق الآمنة ومزيد من الاستقرار فيها وتسريع وتيرة إعادة البناء، وبالتالي عودة أهالي هذه المناطق إليها مجددا، وهي ما تقدر أوساط تركية أعدادهم بقرابة نصف مليون سوري، ولهذا فإن افترضنا أن الانتخابات التركية ستكون في حزيران/يونيو من العام المقبل، فإن البدء بالعملية وتوفير الأمن وتأمين عودة السوريين لن تتم بيوم أو يومين أو شهر أو شهرين، قد تستغرق أشهرا عديدة، وبالتالي هذا مؤشر على أن العملية العسكرية لا يمكن أن تتأخر كثيرا لتنفيذ الأهداف المرجوة منها على الصعيد الداخلي.
وأخيرا مما سبق يمكن القول إنه من المؤكد أن تسارع وتيرة الحشد الميداني سيكون مؤشرا قويا على قرب العملية العسكرية، والتوافقات التي ستجري بالأيام المقبلة مؤشر كذلك على مسار العملية وتوقيتها، وانتهاء العمليات العسكرية المستمرة في شمالي العراق مؤشر ثالث، والدخول بفترة الانتخابات التي دخلت فعليا بها تركيا مؤشر رابع، كلها تصب بقرب العملية العسكرية التي ينتظر أن تكون وفق الاعتبارات السابقة في فترة ما بعد عيد الأضحى كما تحدث عنه الإعلام التركي سابقا، وصولا إلى الخريف على أبعد تقدير لتنفيذ الأهداف المرجوة من المنطقة، لأن العملية العسكرية باتت حاجة مهمة للمناطق الآمنة وللسوريين وللأمن القومي التركي، ولترتيب الأوضاع الداخلية أيضا.