للسوريين حكاية خاصة مع التفسير المؤامراتي للأحداث، حيث إن النظام السياسي الذي حكم البلاد أكثر من خمسين عاماً كان يفسر الكثير مما يحدث مع سوريا تفسيراً مؤامراتياً، ومثل هذا التفسير مريح لكل الأطراف لأن المؤامرة "لبيسة" وتتحمل كل ما يمكن أن ينسب إليها، وكانت إشاعة ذلك التفسير المؤامراتي فرصة ليتهرب ذلك النظام الديكتاتوري الفاشل من التنمية وإحداث نقلات نوعية في مسار الدولة السورية، أو تغييرات ترفع مستوى كفاءة حياة المواطنين.
من السهل على السوريين اليوم تقبل فكرة المؤامرة، لأنها جزء من المعجم الذي سمعوه سنوات طويلة، ولا يظن شخص ما أن التفسير المؤامراتي كناية عن عجز أو استسهال أو جهل، بل إنه جزء رئيس من تفسير ما يحدث في الكون!
ويكثر التفسير المؤامراتي للأحداث في الشرق لأن الكثير من الأشخاص سعوا سعياً حثيثاً لإحداث نقلات نوعية في مسار حياتهم، وحصّلوا الخبرات والدراسات اللازمة، ويتمتعون بصفات شخصية ملائمة، لكن البنيات المؤسساتية والإدارية بقيت تمشي في إطار العلاقات الشخصية إلى حد كبير، وبقيت مرتبطة بإرادة من يديرها، لذلك كان التفسير المؤامراتي هو المآل لأن حسابات (القرايا) لم تتلاءم مع حسابات (السرايا).
الأحداث العامة والشؤون السياسية والاجتماعية السورية في مرحلة ثورة عام 2011 لا تخلو من مؤامرات، وتحالفات "مشبوهة" بين مختلف الأطراف أو الإطار الإقليمي والعربي، وكان السوريون جزءاً من نجاحها وفشلها بمعرفة مسبقة للاستفادة، أو جهل نتيجة غياب التخطيط الاستراتيجي، والسعي لتحقيق مكاسب سريعة! وقد كشفت مقابلات ومذكرات لمسؤولين عرب ودوليين سابقين حول السنوات الأولى من عمر الثورة السورية أن الأمر ليس بريئاً دائماً، ولم يخل من تحالفات بين الأطراف المؤثرة قد يُشْتَم منها روائح مؤامرة.
الأهم من المؤامرات في الشأن العام هي المؤامرات في الشؤون الخاصة والمؤسساتية السورية على المستوى البسيط واليومي، وهذه لا تخلو منها واقعياً حياة السوريين في إسطنبول. حيث إنك تسمع عن مؤامرات في "تقسيم" مع سهرة مع عدد من الأصدقاء تختلف كلياً عن مؤامرات "باشاك شهير" أو مؤامرات "الفاتح" أو مؤامرات "فلوريا"، ويلحظ أن مؤامرات السوريين غالباً في الجزء الأوروبي من إسطنبول حيث يعيش معظمهم، مع أن قارة آسيا عامة المكان الأمثل للمؤامرات، إلا أن السوريين يفضلون المؤامرات في القسم الأوروبي انسجاماً مع كون أوروبا متآمرة علينا بالفطرة.
السؤال الرئيس: عم يتآمر السوريون في اسطنبول؟
ترتبط الإجابة بوجود انكسارات، وسوريين حالمين، وراغبين بإحداث أثر كبير في مسار حياتهم الشخصية؛ لكن الظروف المحيطة لا تخدمهم، مما يجعلهم يفسرون الكثير من الأحداث تفسيراً مؤامراتياً أو يفضلون الوصول إلى أهدافهم بطرق مؤامراتية لثقتهم أن الكفاءة لا تكفي في عالم تسوده العلاقات الشخصية.
ومثلما كان هناك محركون للأحداث والثورات والنجاحات والأفكار والفلسفات، فإن هناك سوريين كثيرين، وجدتهم في إسطنبول، يمكن تسميتهم: مفكرو المؤامرات، أو قادة المؤامرات، هؤلاء لا يستهان بوجودهم أو أثرهم أو فاعليتهم، وقد تراكمت لديهم خبرات مؤامراتية يستطيعون من خلالها بث الشائعات، وتعطيل جانب من عمل المؤسسات، أو الإساءة لأشخاص.
الرأسمال المؤامراتي رأسمال فاعل ومؤثر في بيئة السوريين في إسطنبول، ويتم تنفيذه عبر مجموعات "واتسآب" أو اجتماعات وسهرات ولقاءات في البيوت كي لا تنكشف تلك المؤامرات التفصيلية للفرق الأخرى من المتآمرين!
ممَّ يتكون الرأسمال المؤامراتي في إسطنبول؟
أولاً: مستهلك للمؤامرات وهو غالباً شخص لم تتحقق أحلامه، إما لأن لحظة تحقيق النجاح لم تأت، أو لأنه مرّ بظروف شخصية صعبة، أو لأن إمكاناته الشخصية أضعف مما يحلم به، أو المؤسسة التي يعمل بها لم تقدر إمكاناته.
ثانياً: مادة وحدث يؤججان التفسير المؤامراتي، وقد تكون تغييراً إدارياً أو انقطاعاً للتمويل أو تغيراً في الشؤون القانونية المتعلقة بوضعه في البلد المضيف أو حصول الخصم على فرصة كبيرة، لا يستحقها بنظر جمهور المؤامرة، وقد يكون الأمر كذلك، لكن هناك ظروف ما دفعت بحل اللحظة الأخيرة أو حل المصادفة مثلاً فكانت الفرصة من نصيب الخصم!
ثالثاً: (وشيشة المؤامرات)، وغالباً ما يعانون من كثرة وقت الفراغ، أو الرغبة بالتهديم أو لفت النظر أو مشاكل نفسية تجد أن التفريغ الأمثل لها يكون في تأجيج التفسير المؤامراتي، مستفيدين من أخطاء قد تكون بسيطة أو عابرة أو ليست ناجمة عن تخطيط مسبق، حيث يتم تصعيد التفسير المؤامراتي لها، مستغلين وجود جمهور متضرر منها، يمكن تسمية هؤلاء "محراك الشر" حيث يتصيدون الظروف ليصعدوا الأشياء البسيطة تحركهم نيران الانتقام والسم الذي يمشي في دمهم وأنهم لا يحبون الخير لأحد!
والسؤال الآخر هو: هل تغيب المؤامرات والدسائس عن حياة السوريين في إسطنبول؟
الملاحظة العيانية تشير إلى أن المؤامرات الصغيرة جزء من حياة السوريين في إسطنبول، خاصة جمهور الثورة، والمنشغلين بالشأن العام والشأن الكتابي والفكري والإعلامي، وقد ساعد على نموها أن هناك الكثير مما يحدث لا يوجد له تفسير مهني أو مؤسساتي أو عقلاني، مما يرجّح وجود أسباب سرية أو تحالفات غير مرئية أدت إلى تلك النتائج!
قد يقول شخص متفرج أو يعيش في أوروبا أو يشغل موقعاً إدارياً أو في وضع حياتي وملاءة مالية كافية أو مشتغل في التنمية البشرية: إن الحل الأفضل للتخلص من التفسير المؤامراتي يكمن في التخطيط وتحسين المهارات الذاتية والانشغال بما يفيدك!
يرد شخص آخر بات يميل إلى التفسير المؤامراتي: ماذا لو عملت كل هذا ولم تحقق ما تصبو إليه؟
ستصبح بالتأكيد من طبقة المؤامراتيين الذين يفسرون كل ما يمر معهم تفسيراً مؤامراتياً لكي يريحوا ويرتاحوا!
من تجربة شخصية أعرف أشخاصاً حيكت ضدهم مؤامرات وتجاوزوها!
كيف؟ لا شك أن هناك فروقاً شخصية ومؤسساتية.. العمل المتتالي، تغيير المسار، تغيير المكان، التخفيف من الالتفات إلى الخلف، الصبر، انتظار انقشاع الغيوم، اتباع دورات مهنية، التخفيف من لوم الآخرين.
من تجربة شخصية أعرف أشخاصاً مروا بمؤامرات ولم يتجاوزوها، كيف؟ وبم هم مشغولون؟
الندب واللوم وكثرة الحديث والشكوى والعدمية والاعتداد بأفعال الذات، والرغبة بالتدمير والسلبية وتكريس المظلومية.
يمكنك في إطار "التصدي للمؤامرات" أن تختار أحد المسارين السابقين أعلاه، أو أن تمزج بينهما، أو أن ترحل عن الأماكن، وتهجر تلك المؤسسات التي تتآمر ضدك، أو أغلقت أبوابها في وجهك أو أن مديرها يضمر العداء لك ولا يريد لك الخير.
المصيبة تكمن، كما يقول صديق يعد نفسه من أكبر ضحايا المؤامرات في إسطنبول، في أنه إن كنت لا تملك أياً من أدوات الحل، وأدوات الحلول كلها عند الآخرين!
يحدثني مشتغل في العلاج النفسي في إسطنبول أن التفسير المؤامراتي يشغل حيزاً كبيراً من تفسير الأحداث الشخصية وتفاصيل الخطبة والزواج والطلاق والحب، حيث إن عدداً ممن يزور عيادته يشتكي من مؤامرات يقودها زملاء في العمل أو معارف أو أقارب هدفهم الرئيس حياكة مؤامرات ضد نجاحاته أو تصيد عثراته وإحاطته بجو مؤامراتي، ويضيف ذلك المختص النفسي أن إيمان أولئك الأشخاص بيقينية تلك المؤامرات تجعل معالجتها صعبة جداً لأنها راسخة في نفوس المشتكين، بعيداً عن كونها واقعية أو غير واعية، إذ إنه في مجال علم النفس ينظر إلى اليقين الذي يعيشه الأشخاص كمنطلق للعلاج!
هناك مقولة شعرية عربية قد تصلح للتخفيف من شعورك أنك ضحية للمؤامرات ولا حل أمامك في الأفق:
قد قيل ما قيل إنْ صدقاً وإن كذباً
فما اعتذارك من شيء إذا قيلا
يقول خبير في مساعدة الأشخاص على التغلب على المؤامرات بعد أن سمع بيت الشعر هذا: إن الحل يكمن في العمل والنظر نحو المستقبل، والتجاوز لأن المؤامرة قد وقعت وانتهى الأمر، ما عليك إلا العمل والعمل والعمل لا تضيع وقتك بتصحيح الكوب المنكسر، الماء لن يعود والزجاج لن تلتحم أجزاؤة بالطريقة التي كان عليها، والماء ستكذب "الغطاس" أو ستصدقه، لأن الانشغال بالمؤامرة وتفسيراتها والمتآمرين سيأكل عمرك بالطاقة السلبية، فما دمت مؤمناً بذاتك وقدراتك وتميزك، فامش إلى الأمام في المؤسسة ذاتها أو في مؤسسات أخرى، مع الرفاق ذاتهم أو مع سواهم، فما قيل: قد قيل: إن صدقاً وإن كذباً!