يسخرون من الرد الإيراني على إسرائيل، وأنّها مسرحية تمثيلية لحفظ ماء الوجه ليس أكثر، وأنّ حجم الضرر على إسرائيل لم يكن كبيراً، وكأنّ المنطقة تأمل من إيران أن تدمر إسرائيل دون النّظر إلى حجم الإمكانيات التي تمتلكها إيران، ودون مراعاة السياق المرحلي والعامل الزمني والمكاني في التّورط بحربٍ لا تصب أساساً في مصلحة إيران، وقد تخسر وجودها العسكري والعقائدي في سوريا والعراق واليمن ولبنان.
الحسابات الإيرانيّة تقف في المنتصف مع الولايات المتحدة الأميركية المسؤولة عن إسرائيل، كما وتحمّل أميركا مسؤولية القصف الإسرائيلي لمبنى القنصلية الإيرانيّة في دمشق الذي وقع بداية شهر نيسان/ أبريل 2024 مما دفع إيران مساء السبت إلى الأحد (13/ 14-4- 2024) إلى شن هجمات مباشرة بمئات المسيّرات والصواريخ تجاه إسرائيل بعد أن توعدت بالانتقام.
لم يكن الأمر كيفيّاً بالنسبة لإيران عندما قررت الرّد على إسرائيل، ولم يأت الرد إلا اضطراراً بعد سلسلة اغتيالات وهجمات نفّذتها إسرائيل بحق الإيرانيين داخل سوريا وفي العراق، لا سيما وحرب غزّة قائمة في ظل الإرباك الدولي بشأن اتخاذ موقف رادع في وقف العدوان الإجرامي على القطاع، ومن هنا توالت الأحداث في المنطقة وازدادت سوءاً بعد العملية العسكرية التي قادتها حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023 (طوفان الأقصى) حيث تباينت المواقف واتضحت الأدوار فيما يخص حجم الدور الإيراني في موقع الحدث، لأنّ إيران تقود مشروعاً دفاعياً عن القضية الفلسطينية منذ الثورة الإيرانية عام 1979 باعتبارها القضية الواجهة كذريعة سياسية للنظام الإيراني الجديد آنذاك (كما أرادوها للخمينية) ومن أجل تصدير ثورتها لدول العالم العربي، ورفع شعار حماية الأماكن المقدسة والدفاع عن المستضعفين، لكن في الحقيقة نجاح النظام الإيراني في تأدية وظيفته المركزية بعد سيطرته على أكثر مدن بلاد الشام أنّه ما زال يطمح في التمدد لضم الأردن من خلال الضفة الغربية في فلسطين والمدينة الحدودية درعا السوريّة.
شكل العداء مبني على أساس التّقيّة لدى إيران
تعتبر العلاقة بين إيران وإسرائيل شديدة الحذر كونها مرّت بتحوّلات جذريّة على مدار 50 سنة، فما قبل الثورة الإيرانية عام 1979 كانتا حلفتين يربطهما تعاون عسكري واقتصادي استمر حوالي ثلاثة عقود من الزمن، حينها كان الطابع العام هو العداء الخفي، لكن فيما بعد أصبحت طهران وتل أبيب أعداء في العلن، بسبب نفوذ إيران الإقليمي وتمويلها للميليشيات الوكيلة عنها في سوريا والعراق ولبنان واليمن، إلى جانب نشاطها في الاتفاق التاريخي حول برنامجها النووي مع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن، فما أودُّ قوله بأنّ شكل العداء مبني على أساس التّقيّة لدى إيران، وأنّ نوع الصراع بينهما يتطلب الهدوء من كليهما، لأنّ إيران دولة نافذة وممتدة لديها شبكة احتلالات عسكرية متوزعة في دول الشرق الأوسط، وخلايا متجذّرة في دول الخليج العربي تعمل لصالح إيران من عمليات نوعيّة عابرة للحدود وفي أكثر الأحيان تخدم إسرائيل نفسها بناءً على الطلب الأميركي، وبهذا يمكن للتّقية السياسية أن تقوم بدور فعّال في تحديد المصالح المشتركة بين أصحاب المصلحة بحيث تتسع هنا وتنكمش هناك.
لا يمكن فهم طبيعة الصراع التعاوني إلا بالرجوع إلى حرب الخليج الأولى سنة 1980 التي دامت ثماني سنوات وتسليط الضوء على عدّة مخططات انكشفت حينها ومفادها أن الولايات المتحدة الأميركية أشعلت جذوة الحرب بين العراق وإيران بالتنسيق مع إسرائيل على كيفية إدارة حرب الخليج من خلال صفقات الأسلحة التي تتحكم في سير الحرب، فقدمت إسرائيل دعماً عسكرياً لإيران بهدف إطالة أمد الحرب وإشغالها عن فكرة مشروعها النووي الذي كان في بدايته، وكذلك لإضعاف العراق وتفكيك جيشه باعتباره أقوى جيش عربي يهدد أمن إسرائيل، وعليه كلٌ منهما سيدمر الآخر، وبهذا ستمنع إسرائيل العراق من أن يكون له دور استراتيجي بالنسبة لمصر والأردن وسوريا في احتمال مواجهتها مستقبلاً، وحتى في حال تمّ السلام بين الطرفين فسيكون العراق بحاجة لعدة سنوات لإعادة توازنه.
إيران محط الأنظار مما حتّم عليها أن تكون في قلب كل حدث لتنفيذ مآربها في استعادة أمجاد فارس.
الشيء بالشيء يذكر أنّه في فترة حرب الخليج خرج التعاون بين إيران وإسرائيل عن سريته لأنّ الأسلحة وقطع الغيار كانت تشحن من أميركا عبر إسرائيل إلى طهران، خصوصاً عندما أسقطت أنظمة الدفاع السوفييتية طائرة محمّلة بالأسلحة دخلت أجواءها عن طريق الخطأ، وقد نشرت صحيفة التايمز اللندنية تفاصيل الجسر الجوي ذهاباً وإياباً عندما استلمت إيران ثلاث شحنات: الأولى في 10-7-1981 والثانية في 12-7-1981 والثالثة في 17-7-1981، وفي المقابل بنفس العام تمّ إطلاق سراح الرهائن الأميركيين بموجب اتفاقية الجزائر عقب حادثة اقتحام الطلاب الإيرانيين لمقر السفارة الأميركية في إيران بسبب التّدخل بشؤون إيران الداخلية، وعلى إثرها فرضت أميركا على إيران عقوبات اقتصادية وجمّدت أرصدتها في المصارف الأميركية، لكن ومع ذلك لا تستطيع الولايات المتحدة إغلاق بابها في وجه إيران خشية وقوعها في فلك الاتحاد السوفييتي آنذاك.
في نهاية الأمر برهنت التجربة التاريخية في التعامل الأميركي مع إيران بعد عام 1979 على أهمية استغلال موقعها الجغرافي إذ تسيطر إيران على التخوم الشمالية للشرق الأوسط والطرق الاستراتيجية بين أوروبا وشرقي أفريقيا وجنوبي آسيا، وتحكم على ثلث النفط العالمي، وهذا ما أكسبها كدولة بعداً إقليمياً ذا نظام سياسي ضم خمس مركزيات كبرى (طهران، أصفهان، خراسان، أذربيجان، كرمنشاه) فإيران محط الأنظار مما حتّم عليها أن تكون في قلب كل حدث لتنفيذ مآربها في استعادة أمجاد فارس، لهذا كان لا بد من التعاون بشكل أو بآخر مع الولايات المتحدة والغرب في آن معاً وعلى النقيض من خلال توجيه دفّة الصراع السياسي إلى خارج حدودها بتوظيف موقعها الجيو استراتيجي نحو البلاد غير المستقرة لأنّ المصلحة القومية مشتركة في محاربة الإرهاب والتّطرف (الإسلام السنّي) على المستويين العربي والعالمي.