ربما بات الحديث عن الكوارث المتتالية على السوريين منذ اثنتي عشرة سنة إلى الآن، أمراً مألوفاً، وربما أيضاً خُيِّل للبعض بأن لعنة الخراب والدمار حلّت على البلاد السورية إلى درجة بات فيها اختلاط المصائب يحجب هوّية سوءات الأكثر قذارة من غيرها، وبالتالي يحسبها المرء كلّاً موحّداً لهذا الدمار الجارف الذي طال الأرواح والبيوت والممتلكات، ولعلّ هذا ما يدفع الكثيرين للذهاب إلى أن جزءاً كبيراً من الخطاب السياسي للسوريين لا ينطوي سوى على سرديات المظلومية التي باتت السمة النفسية الأبرز في المشهد السياسي السوري، إلّا أن واقع الحال يؤكّد أن هذا المخزون الهائل من الغضب والحزن الممزوج بالتذمر ليس سرديات مظلومية ولا نزعة مازوشية لدى السوريين، وكذلك ليس أسلوباً من أساليب استدرار العطف لدى الآخرين، وإنما هو واقع معاش، مرئي ومحسوس، يراه العالم بالعين المجردة، لا من خلال الصور التي تتصدّر الصحف والمواقع ووسائل الإعلام الأخرى فحسب، بل من خلال ما بات يُدعى: (الموت على الهواء مباشرة)، نعم أصبح العالم يرى المواطن السوري وهو يلفظ أنفاسه حتى تخبو تهمد روحه.
منذ أن بدأت آلة العنف الأسدية بإلقاء البراميل المتفجرة فوق رؤوس السوريين، كان الناس يموتون تحت الأنقاض
ما هو مؤكّد أن الشعب الذي انتفض بوجه نظام الإبادة الأسدي لم يكن يتنبأ بالزلازل، ولم يكن ينتظر تداعياتها الكارثية حتى يُثبت للعالم أن الموت يُجهز عليه في عقر داره ولا من مجيب لاستغاثته، ولكنه بالتأكيد عايش هذا الخذلان قبل الزلزال بسنوات، فمنذ أن بدأت آلة العنف الأسدية بإلقاء البراميل المتفجرة فوق رؤوس السوريين، كان الناس يموتون تحت الأنقاض، كما كانت الكاميرات ترصد أشلاءهم وهي تتناثر، وتوثق أنفاسهم وحشرجاتهم وهي تغادر أرواحهم، ولم يكن – إذ ذاك – هذا الفن من فنون الموت المُبتدع حالة طارئة أو عرضية، بل أصبح ممارسة ممنهجة، بل هي المنهج القتالي الضامن لصمود نظام الأسد في وجه من انتفضوا على حكمه، وكذلك لم يكن الفاعل مجهولاً أو مشكوكاً بهويته، بل كان، وما يزال الرئيس الشرعي للبلاد أمام العالم، وهو الجهة الوحيدة التي تمثل الدولة السورية في جميع المحافل الدولية.
وحين لم تعد البراميل المتفجرة قادرة على إشباع شهوة القتل لدى نظام التوحّش لم يتوان عن استخدام السلاح الكيمياوي الذي ربما يكون أكثر جدوى في حصد الأرواح، إذ شاهد العالم أجمع في السابع والعشرين من شهر آب 2013 أطفال الغوطة الشرقية وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة عبر مشاهد حيّة لا يشوبها أي لبس، وقد تكرر هذا الصنيع الأسدي أكثر من خمسين مرة فيما بعد، وفقاً للتقارير التي وثقتها جهات دولية مختصة، وعلى الرغم من الضجيج الإعلامي الهائل – في حينه – وكذلك على الرغم من الإدانات الأخلاقية الحادّة من جانب المجتمع الدولي، إلّا أن ذلك كلّه لم يجسّد أي خطوة عملية ولو للاقتصاص لطفل سوري واحد، بل إن الموقف الدولي من نظام الأسد حتى الوقت الراهن لا يتجاوز الشعار الأميركي: (المراهنة على تغيير سلوك النظام وليس إزالته).
لعل هذه الطريقة من التعاطي الدولي مع المقتلة السورية قد أعطت حافزاً إضافياً لحاكم دمشق لكي يرى في الكارثة التي أنتجها زلزال صبيحة السادس من شباط الجاري فرصةً جديدة ليس لتغيير سلوكه كما يراهن البعض، بل للاستثمار بهذه الكارثة علّها تكون مدخلاً جديداً لفتح علاقات وآفاق على المستويين العربي والدولي، بغية الخروج من طوق عزلته التي أورثت حالة اقتصادية وسياسية هي غاية في التردّي، فعلا صوت أبواقه الإعلامية المطالبة برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على نظام حكمه، علماً أن العقوبات لا تطول سوى رأس النظام وحفنة من رجالاته والشركات المافياوية المموّلة لآلة القتل والإجرام الأسدي، كما استبدّت به القذارة إلى استخدام الصور والفيديوهات المروّعة لضحايا الزلزال في الشمال السوري الخارج عن سيطرته، لخداع الرأي العام واستدرار عطفه، علماً أن هول الكارثة وتداعياتها في المناطق الواقعة تحت سيطرة الأسد لم تلق الاهتمام اللازم من حكومته، بل إن وقع الكارثة كان واحداً بالنسبة إلى المواطنين السوريين، فالضحايا الذين قضوا في حلب أو حماة أو جبلة أو اللاذقية، كان حالهم كحال أقرانهم في إدلب وعفرين وبقية مدن الشمال السوري، ما يؤكد بالقطع أن نظام الأسد لا يعنيه السوريون ومصائرهم وحيواتهم بقدر ما يعنيه استمرار بقائه في السلطة وحسب، ولو استدعى ذلك هلاك عموم الشعب.
أكّد المسؤولون الصهاينة مراراً بأن بقاء الأسد في حكمه يلبي حاجة أمنية لإسرائيل ربما تفتقدها بزواله؟
هل هي مؤامرة كونية على الشعب السوري؟ بالتأكيد ليست كذلك، ذلك أن المؤامرة غالباً ما تنطوي – في جانب من جوانبها – على حدث يتم تدبيره في الخفاء، وربما ينكشف أمره لاحقاً أو لا ينكشف، ولكن ما يجري في البلاد السورية منذ آذار 2011 وحتى هذه اللحظة هو سيرورة من الأحداث واضحة الملامح والتوجهات والمقاصد، ولا تحتاج إلى عقود زمنية قادمة حتى تتكشّف أسرارها، وهي لشدّة حضورها الحسّي والملموس تكاد تفقأ العين، ولكنها تخفى فقط على من وجد في التفكير الغيبي سبيلاً للاختباء وراء نظرية المؤامرة حيناً، والتنصّل من رؤية مواجهة الواقع المؤلم حيناً آخر، فامتناع المجتمع الدولي عن محاسبة نظام الأسد أو ردعه عن قتل السوريين ليس مؤامرة وإنما قرار تكمن وراءه مصلحة، ألم تؤكّد الولايات المتحدة الأميركية – ومنذ الشهر الأول لانطلاق الثورة السورية – بأنْ لا مصلحة لها بإسقاط نظام الأسد، ولن تسعى لذلك لأنه لا يهدّد مصالحها في المنطقة؟ ووجدناها في الوقت ذاته تشكّل تحالفاً دولياً لقتال تنظيم داعش ومشتقاته في سوريا، علماً أن الإجرام الأسدي فاق جميع أقرانه من صنوف الإرهاب، ألم يكن الموقف الإسرائيلي واضحاً جدّاً حين أكّد المسؤولون الصهاينة مراراً بأن بقاء الأسد في حكمه يلبي حاجة أمنية لإسرائيل ربما تفتقدها بزواله؟ ألم يكن هذا الموقف ذاته لفرنسا، في تصريح واضح للرئيس ماكرون بتاريخ 22 من حزيران 2017 بأنه (لا يرى خلفاً مشروعاً للأسد، وأن هذا الأخير ليس عدواً لفرنسا وإنما للشعب السوري)؟ نعم هي المصلحة، ومن لا يُحسن الدفاع عن مصلحته سوف يخسر الكثير، ولعل جميع القضايا العادلة للشعوب التي انتصرت عبر التاريخ لم تنتصر بأبعادها وحواملها الأخلاقية والإنسانية فحسب، بل بتعزيز الحوامل الأخلاقية بدعائم القوة المساندة وبالمبادرات الفعلية التي هي وحدها من يمنح الأخلاق مصداقيتها أمام العالم.
حين تستجيب عدة حكومات عربية وغير عربية لاستغاثات بشار الأسد وتنهال عليه سيول التعاطف والدعم الإغاثي، علماً أنها تدرك فداحة إجرامه ولصوصيته، وهي تتذرع بأن سكان الشمال السوري تمثلهم معارضة قد سلّمت قيودها – سياسياً وعسكرياً لتركيا، وبالتالي تركيا هي الطرف الوصي عليها، فإن تنصّلها هذا ليس مؤامرة وإنما محاباة لمجرم في سبيل مصلحة أمنية سلطوية لا تختلف بقذارتها عن سلطة الأسد، وحين يُسمع أنين الأطفال والشيوخ تحت الأنقاض طوال الأيام الثلاثة من تاريخ وقوع الزلزال، ولا تُفتَح المعابر التركية لدخول الآليات وفرق الإغاثة لانتشال الأحياء والأموات، فهذه ليست مؤامرة، وإنما عجز المعارضة الرسمية عن انتزاع قرار من الحكومة التركية بفتح المعابر، علماً أن ما حلّ بالشعب التركي من وجع لا يختلف في درجة إيلامه عن الوجع السوري.
بكل تأكيد، تبدو القدرة على مواجهة الكوارث الطبيعية كما هو حاصل منذ فجر الأحد الماضي، أكبر بكثير من إمكانيات البشر والحكومات والدول مهما عَظُمت، وليس من عاقل أو منصف يمكنه أن يطالب المعارضة الرسمية السورية بكل أشكالها بما هو فوق طاقتها وإمكانياتها، ولكن ما هو صحيح أيضاً، هو أن منهجها في التعاطي مع كارثة الزلزال المدمّرة هو استمرار لنهجها في تعاطيها مع مجمل كوارث السوريين السابقة، ولعل هذا النهج من التفكير والسلوك معاً، هو كارثة بحدّ ذاتها.