استفز الوضع غير المسبوق، الذي تعيشه مناطق سيطرة النظام، الميكانيزمات النفسية لتوليد وتكثيف وتناقل الشائعات، بدءاً بشائعة إفلاس المركزي السوري، مروراً بشائعة اختباء بشار الأسد في قاعدة حميميم الروسية، وفرار عائلته وكبار ضباطه إلى خارج البلاد، وليس انتهاءً بشائعة نيّة إيران دعم شقيق الأسد، ماهر، لتنفيذ انقلاب عسكري، ينهي الترتيبات المزدوجة في السلطة الحاكمة بين جناحٍ موالٍ لروسيا، وآخر موالٍ لإيران.
ولا تتأتى هذه الشائعات من فراغ، إذ عادةً ما تنشأ وتتطور الشائعة، تزامناً مع ضبابية الرؤية حيال المستقبل القريب جداً. وهو أمر ينطبق على الحالة الراهنة في مناطق سيطرة النظام. إذ ورغم تعوّد سكان تلك المناطق على أزمات المحروقات والطاقة على مدار السنوات الأربع الأخيرة، إلا أن الأزمة الراهنة غير مسبوقة من حيث نوعيتها وامتدادها القطاعاتي والزمني، ورد فعل حكومة النظام العاجز، حيالها، بل والمقرّ بالعجز أيضاً، في سابقة غير معتادة في خطاب مسؤولي النظام. لذلك، نجد أن الشائعات المتتالية، تتولد من رحم الواقع. كشائعة إفلاس المركزي، التي نفاها مسؤولوه، قبل أيام. والتي هي نتاج عجز حكومة النظام الواضح عن توفير القطع الأجنبي لشراء المحروقات. وهو أمر أقرّ به وزراء التجارة الداخلية والنفط، على شاشات الإعلام الرسمي، أو شبه الرسمي. وكان لافتاً، أن شائعة إفلاس المركزي -وقد سبقتها شائعة مشابهة من حيث المضمون- تركزت تحديداً، على رفض روسيا مدّ حبل النجاة للنظام، ودعمه بقرض مالي. هذا التركيز على غياب الدعم الروسي في مضمون الشائعة، لا يتأتى من بنات أفكار مُطلقيها، بل هو اقتناص للعتب العلني الذي وصل حدّ اللوم، الذي أطلقه خبراء ومعلّقون موالوان للنظام، على شاشات الإخبارية السورية و"سما" الفضائية الموالية، حيال تقصير روسيا في دعم نظام الأسد، سواءً في ملف توفير المشتقات النفطية، أو في ملف تخفيف الضغوط على الليرة السورية، عبر إيداع وديعة مثلاً في المركزي السوري، أو تقديم قرضٍ لحكومة النظام.
وبطبيعة الحال، فإن لوم النظام العلني لروسيا، لعدم وقوفها معه في أسوأ أزمة طاقة تعيشها مناطق سيطرته مبرر. ذلك أن روسيا هي الأقدر على إنقاذ الأسد، بالفعل. خاصة في ملف إمداه بالمشتقات النفطية. ذلك أن النفط الخام وحده، لا يكفي لإنقاذ الأسد، من جراء تهالك البنية التحتية لمصفاتي النفط في بانياس وحمص، وعجزهما عن تكرير الكمية التي تستهلكها مناطق سيطرة النظام، يومياً. وروسيا، أكثر كفاءة من إيران في ذلك. لذا، فإن إشارة أحد المعلّقين الموالين للنظام إلى أن روسيا تستطيع "بإشارة" أن تغرق مناطق سيطرة النظام، بالبترول والكهرباء، في محلها تماماً.
رغم أن روسيا تقارع الغرب، وتتعثر في حربٍ مصيرية بالنسبة لها، في أوكرانيا، فإن ذلك لا ينتقص من قدرتها على إمداد النظام بالمشتقات النفطية، إن أرادت
على الضفة الأخرى، ورغم تراجع مستوى التوريدات النفطية الإيرانية في الشهر الأخير، إلى نصف ما كانت عليه قبل هذه الفترة، فإن تلك التوريدات ما تزال تصل تباعاً، إلى ميناء بانياس. إذ إن طهران تبذل قدر استطاعتها، لإبقاء حليفها على قيد الحياة، في الوقت الذي تتعرض فيه لضغوط كبيرة، داخلية، وأخرى تتعلق باحتمال تجدد حرب الناقلات بينها وبين إسرائيل، ناهيك عن مشكلاتها المتعلقة بتوفير ناقلات كافية لإرسالها إلى سوريا، في الوقت الذي تحتاج فيه لتلك الناقلات في إمداد مشترِي نفطها، لتوفير أعلى سيولة ممكنة في مواجهة الاحتجاجات الداخلية.
ورغم أن روسيا تقارع الغرب، وتتعثر في حربٍ مصيرية بالنسبة لها، في أوكرانيا، فإن ذلك لا ينتقص من قدرتها على إمداد النظام بالمشتقات النفطية، إن أرادت. إذ لم يسبق أن استهدفت البحرية الأمريكية مثلاً، ناقلة نفط روسية، فيما تبدو ناقلات النفط الإيرانية، هدفاً سهلاً ومُلاحقاً بشكل شبه دوري.
هل يعني ما سبق أن روسيا نفضت يدها من سوريا، من جراء انشغالها بالمعضلة الأوكرانية؟ لا يوحي الاهتمام الروسي عالي المستوى بتطورات الوضع في الشمال السوري، بخلاصة كهذه. إذ تبدو روسيا مهتمة، بالاتفاق مع تركيا على ترتيبات جديدة في المشهد السوري. ومنذ أيام فقط، أجرى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين، مكالمة هاتفية، للبحث في هذا الشأن، تحديداً. فيما تتواصل الاتصالات بين وزارتي خارجية ودفاع البلدين، بصورة يومية.
إذاً، لماذا تترك روسيا حليفها لمثل هذا الضغط غير المسبوق، خدماتياً ومعيشياً، بصورة تهدد باهتزاز وضعه الداخلي؟ قد يتعلق الجواب بتعنت رأس هرم النظام، بشار الأسد، حيال ضغوط روسية للتفاهم مع تركيا، بصورة لا تتناسب مع تطلعاته. خطوط هذا التفاهم، توحي بها تصريحات لافتة لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قبل أيام، تتعلق بـ فرز فصائل المعارضة، حسب قبولها الحوار مع النظام. مما يعني أن موسكو تريد تسوية سياسية في الشمال الغربي من البلاد، تتيح دخول فصائل معارضة في شراكة ما، بالحكم، مع النظام بدمشق. وهو ما لا يريده الأسد، حسب ما توحي به المؤشرات التي يمكن التقاطها جلياً، على مدار الأشهر الثلاثة الفائتة.
بدأ الأمر منذ منتصف أيلول/سبتمبر، حينما تلقفت موسكو الاستعداد العلني الذي أبداه الرئيس التركي، للقاء بشار الأسد. وبدأت تعمل على هذا المسار. لكن لهذا اللقاء، أثمان، لا يريد رأس النظام، دفعها. أحد تلك الأثمان، تؤشر إليها زيارة أحمد العودة، قائد اللواء الثامن، إلى تركيا، في تشرين الأول/أكتوبر، بالتزامن مع نقل أنقرة المسؤول الأمني عن الملف السوري من منصبه ليتسلم مهام سفير تركيا في الأردن. ومن المعلوم أن العودة ولواءه، يمثّل شراكة غربية – إماراتية أردنية – روسية، أدت إلى اتفاق تسوية في الجنوب السوري في العام 2018. ومنذ ذلك التاريخ والنظام السوري يحاول لجم استقلالية هذا اللواء، والحد من ارتباطاته الخارجية. لكن لم تنجح تلك المحاولات حتى الآن، بل على العكس، اتسعت هوامش التحرك الحرّ للعودة، بين الأردن وتركيا والجنوب السوري، خلال الأشهر القليلة الفائتة. مما يؤشر إلى أن تركيا وروسيا تناقشان استنساخ تجربة تسوية الجنوب في الشمال الغربي، عبر إدماج فصائل "الجيش الوطني"، في "جيش" النظام، رسمياً. مع إبقاء هامش من الاستقلالية المحلية والارتباطات الخارجية لتلك الفصائل، كما في حالة "اللواء الثامن". وهو ما لا يناسب النظام، في جناحه الإيراني بصورة خاصة، كما لا يناسب، رأس النظام، بشار الأسد، نظراً لأن المطالب التركية لقاء التطبيع معه، قد ترتقي إلى مستوى إشراك معارضة سياسية في السلطة، وهو ما يراه انتقاصاً مما يعتبره "انتصاراً" حققه، نال بموجبه حصرية التمثيل المحلي لمصالح القوى الخارجية. حصرية لا يريد خسارة المزيد من هوامشها، كما حدث في الجنوب السوري. فدخول شخصيات وقوى محلية على خط تمثيل مصالح القوى الخارجية في الساحة السورية، يهدد سلطته، على الأمد البعيد. لذلك لا يريد الأسد القبول بهذه المعادلة. كما ورفض سابقاً، معادلة مشابهة مع "قوات سوريا الديمقراطية – قسد".
تبدو روسيا وكأنها تترك سلطة الأسد على حافة الانهيار، وتتمنع عن إنجاده، من جراء رفضه لمسار تسوية تريدها مع تركيا
وهكذا نفهم رد الفعل المتعنت من جانب الأسد حيال الانفتاح التركي على "التطبيع" معه. وهو ما تجلى بصورة خاصة في تصريحات مستشارة الأسد، بثية شعبان، في نهاية الشهر المنصرم، حينما هاجمت تركيا واتهمتها بالمراوغة. وقبيل ذلك، كانت "أسوشيتد برس" قد نقلت على لسان مسؤول لبناني، يبدو أنه مقرّب من الأسد، أن الأخير رفض استقبال وفد تركي رسمي في دمشق. وفي مطلع الشهر الجاري، كشفت "رويترز" نقلاً عن ثلاثة مصادر مطلعة، مقاومة الأسد لضغوط روسية تستهدف عقد قمة بينه وبين أردوغان. هكذا قمة إن حدثت في الظروف الراهنة، فهي تمثّل مكسباً انتخابياً لأردوغان، دون أن يحصل الأسد على شيء بالمقابل، وهو ما لا يريده الأسد. ومنذ ذلك التاريخ، مطلع الشهر الجاري، بالتزامن مع تفاقم أزمة الطاقة بصورة غير مسبوقة، وانهيار سعر صرف الليرة، غاب رأس النظام، تماماً عن المشهد. وكان آخر ظهور رسمي له، بالصور فقط، في 5 كانون الأول/ديسمبر الجاري، في أثناء تقبّل أوراق اعتماد سفير باكستان في سوريا.
وهكذا تبدو روسيا وكأنها تترك سلطة الأسد على حافة الانهيار، وتتمنع عن إنجاده، من جراء رفضه لمسار تسوية تريدها مع تركيا. وقد يكون للإيرانيين دور في تعزيز رفض الأسد لتسوية كهذا. لكن طهران عاجزة عن تقديم المزيد من المدد النفطي للأسد، من جراء الضغوط التي تواجهها على أكثر من صعيد، كما سبق أن أشرنا. نظام الأسد بدوره، قرر نقل الضغط إلى كاهل السوريين، ليعانوا واحدةً من أسوأ تجاربهم الحياتية، في حين يرفض هو تقديم أية تنازلات تتيح تحقيق انفراجة في أفق حياة هؤلاء، بغية الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من السلطة والنفوذ لصالحه.