يرفض كثير من المفكرين والباحثين وصف الانتفاضات بالثورة إلا في حالة تحقيق جموع الثائرين لأهدافهم، سواء البعيدة منها أو القريبة، باعتبار أن الثورة مفهوم نظري يتطلب لتحقيقه وجود معطيات كثيرة لم يجدوها في أساليب وحركة الجموع.
وحاول باحثون إزاحة القشرة الرومانسية المغلفة لاحتشاد الناس في الشارع، باعتبار ذلك شكلًا ملهمًا لما أطلقه بوعزيزي حين أحرق نفسه في مشهد احتجاجي ميلودرامي، فانتفضت الناس في ردة فعل طبيعية لتشابه حالة بوعزيزي المعيشية الصعبة مع الحالة الاقتصادية العامة، وانتشر الاحتجاج في تونس بطريقة الدومينو وصولًا إلى اللحظة التي أعلن فيها رئيس الوزراء التونسي وقتذاك محمد الغنوشي رحيل الرئيس بن علي، وأنه يتولى المسؤولية.
ورغم أن حراك تونس، الذي بدا سلميًا إلى حد كبير، أدى بعد ثمانية وعشرين يومًا إلى اقتلاع نظام بن علي الذي حكم أكثر من 23 عامًا متواصلة، انساب بسلميته إلى بلدان عربية أخرى مستلهمًا ذات الروح العنيدة والمصرة على رحيل الأنظمة دون اللجوء إلى عنف كبير. لكن ما زال الكثيرون يفضلون إطلاق مصطلح "انتفاضة" تهربًا من استدعاء ما تفرضه الثورة من حيثيات سياسية وأخلاقية، رغم أن التسمية لا تغير من وقائع الحراك التونسي ومآلاته، فقد كانت له شروط بدء مناسبة لم تخلقها حادثة بوعزيزي ذاتها، بل سرعت في إطلاقها، مثل ضعف بن علي بسبب مرض أصابه، وزيادة تداخل أقربائه في التحكم والسلطة، والقرب الجغرافي من دول الجنوب الأوروبي كإيطاليا وإسبانيا، والتقارب الثقافي مع فرنسا، مما أسهم في تواصل ناشطين بداية الألفية الثانية مع جهات غربية للتدرب على النشاط السلمي المعارض. كما كان دور الولايات المتحدة حاسمًا في المسألة حين أوعزت للجيش التونسي بعدم التدخل، كما أوعزت لاحقًا للجيش المصري، ولبى الجيشان المذكوران الرغبة الأميركية بسبب شراكتهما الأمنية والعسكرية معها.
وكشفت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية عن وجود اتصالات وثيقة بين السفارة الأميركية والجنرال رشيد عمار قائد أركان الجيش التونسي. ويورد الباحث المصري/ السويسري طارق رمضان تفاصيل الاجتماع الذي جرى بين الجنرال عمار، ووزير الخارجية كمال مرجان، والجنرال آنذاك ديفيد بتريوس، القائد الأعلى للقوات الدولية في أفغانستان والذي سرعان ما أصبح رئيسًا لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، وسرعان ما قرروا إبقاء الجيش على الحياد، فلن يُطلب منه إطلاق النار على المتظاهرين. لكن مع تزايد التوتر، ردت الشرطة بالعنف، وفي الحادي عشر من يناير/كانون الثاني، أصدرت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك بيانًا يدين الاستخدام المفرط للقوة. ووفقًا لدبلوماسي تونسي، في 14 من يناير/كانون الثاني أعطت السفارة الأميركية الضوء الأخضر لرحيل بن علي! حينها تنبأ السيناتور الديمقراطي ورئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ آنذاك جون كيري بأن هروب بن علي "سيتردد صداه خارج حدود تونس".
لم يتردد النظام السوري منذ أن كان الأسد الأب حاكمًا في قتل وتعذيب معارضيه بمئات الآلاف.
حين يتعلق الأمر بسوريا، فالظروف تختلف، حيث لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا كبيرًا في حشد المتظاهرين، من خلال نشر المعلومات حول مكان ووقت التجمع، وتنسيق النشاطات واختيار الشعارات، وفضح انتهاكات النظام وعرض حالات الظلم الاجتماعي على شكل قصص شخصية مؤثرة حفزت شرائح جديدة على الانضمام للاحتجاجات. وسمحت التكنولوجيا العالمية بنشر الأحداث في وقتها، وتجاوز الرقابة المفروضة على وسائل الإعلام التقليدية.
ومع ذلك، يجب التذكير أن هذه الوسائل قد احتوت على جوانب سلبية خطيرة كالانزلاق في المعلومات المضللة والتلاعب بالمشاعر وجر مجموعات تشعر بالظلم لسلوك عنيف أو الانضمام لتنظيم يحمل فكرًا متطرفًا.
لم يتردد النظام السوري منذ أن كان الأسد الأب حاكمًا في قتل وتعذيب معارضيه بمئات الآلاف، وقد بُنيت سياسته الداخلية على الترهيب، وارتبط بالنظام الإيراني بشكل كلي في عهد الابن. في حين تعامل الغرب مع سوريا بالحد الأدنى، وكان يتقي شرها، باعتبارها دولة غير مستقرة ونظامها غير جدير بالثقة.
إذا كانت انتفاضة السوريين لم تحقق أهدافها حتى اليوم، فإن البعض يعيد ذلك لغياب الدعم الحقيقي الجاد للثائرين.
ومن جهة أخرى، تشكل الميول اليسارية المناهضة لأميركا، فضلاً عن الإسلاميين في صفوف المعارضة، تكوينًا سيكون من الصعب إدارته غربيًا، فرأينا المسؤولين الغربيين قد انتظروا ثمانية أشهر ليصعِّدوا خطابهم تجاه حكومة النظام السوري. وجاءت دعوة الإدارة الأمريكية بشار الأسد إلى إصلاح النظام في سوريا، والعمل على دمقرطته، متأخرة. ثم بشّر الرئيس أوباما في نهاية شهر أكتوبر 2012 بأن أيام الأسد باتت معدودة، مما يعكس الدقة في التعامل الغربي مع نظام يعتبره معاديًا ومدعومًا من إيران وروسيا بالإضافة إلى الصين، في حين كان للمسؤولين الغربيين الكلمة الفصل في حالة تونس ومصر. أما التحديات الراهنة بعد 13 سنة فقد انحصرت بإنهاء الصراع، ومعضلة الإعمار، وإعادة توحيد البلاد.
إذا كانت انتفاضة السوريين لم تحقق أهدافها حتى اليوم، فإن البعض يعيد ذلك لغياب الدعم الحقيقي الجاد للثائرين، ولكن أيضًا يعزي آخرون تردد الداعمين إلى كون هدف مجموعات المنتفضين من الأساس لم يكن واحدًا، مما سهل دخول برامج متطرفة، وتقبُّلها، من دون رؤية واضحة وتوجه ثابت ومقنع لإنهاء النظام الدكتاتوري في دمشق.