لا يستقيم السؤال المطروح في العنوان مع المفهوم الراسخ للوزير الذي يعد منصباً سيادياً يمثل الدولة. وعلى الرغم من الاختلاف اللغوي حول جذر المفردة هل هي من الوِزر بمعنى الحمل الثقيل أم من المعنى الآخر: الملجأ. إلا أن المعنى الاصطلاحي للوزير، وفقاً للعلوم السياسية والقانونية، لا ينسجم مع كلمة أنه يخاف من موظف ما في جهة حكومية، لأنه من الطبيعي أن يخاف من عدم تنفيذ القانون، أو التقصير بأداء مهماته، أو تقديم الخدمات للمواطنين، أو التأخر عن تنفيذ المشاريع الواردة في خطة الحكومة.
لكن الأمر مختلف كلياً في الدول ذات الأنظمة الاستبدادية والشمولية كحالة سوريا، حيث يصفر وجه الوزير خوفاً نتيجة قلة تدفق الدم إلى وجهه، لأنه يعرف أن مصدر القرار، ومصدر الاستمرار أو الإقالة هم أشخاص أعطاهم رئيس النظام السوري صلاحيات غير محدودة لتعميم حالة من الخوف المتبادل بين الجميع، وعدم الشعور بالثقة والأمان بحيث إن الكل يخاف من الكل! حتى إن الوزير الذي ضُرِب به المثل بالحكايات والسرديات على أنه حلم كل حالم بالوجاهة والمنصب يغدو نهباً للشائعات والمخاوف والقلق!
يبلع سيادة الوزير الإهانة ويقول لي: رسالتهم وصلت! أننا نحن السيادة وما أنت إلا موظف في دولة المخابرات شئت أم أبيت!
في السنة الثانية من عمر ثورة عام 2011، وبعد أن تهدم بيتي في معضمية الشام نتيجة القصف، شاءت الظروف ان أسكن ضاحية قدسيا وقد كان يسكنها أكثرمن وزير من شبكة المعارف ممن عملهم الأساسي "أستاذ جامعي"، وبحكم الزمالة فقد كان أحد هؤلاء الوزراء يلح علي أن يوصلني بسيارته إلى الجامعة، كنوع من الوفاء للزمالة ورغبة بأن نتقاسم الحديث حول مآلات الوضع السوري، وقد كان يحرص ذلك الوزير على قيادة سياراته بنفسه في محاولة لعدم لفت الانتباه إليه خوفاً، وقد كان في الطريق إلى داخل العاصمة حاجز للمخابرات، حيث يحرص هذا الحاجز على أن ينزل الوزير شخصياً ليفتح الباب الخلفي للسيارة، في مشهد إذلال متعمد لشخصية الوزير، وتحسباً لتذمر قد يجده عنصر المخابرات في عيني الوزير يٌرفق التفتيش بعبارة: "هذا واجبنا سيادة الوزير خوفاً عليك من الإرهابيين"!
يبلع سيادة الوزير الإهانة ويقول لي: رسالتهم وصلت! أننا نحن السيادة وما أنت إلا موظف في دولة المخابرات شئت أم أبيت! ويتابع الوزير: هؤلاء هم الأبقى، نحن نذهب ونأتي أما هؤلاء فلا نهاية لسلطتهم أو صلاحياتهم أو مكاسبهم، نحن الوزراء تقتصر وجاهتنا حين نكون في المنصب، وحين نصبح "الوزير السابق" يتلاشى حضورنا! بل نبقى مسربلين بالخوف خوفاً من فتح ملف ما، أو تسريب تفاصيل عن عملنا إلى الصحافة، حيث استجبنا لتوجيه من القصر أو المخابرات أو حزب البعث، خارج القانون!
ولما سألته سؤال العارف: ولماذا لا تلتزمون بالقانون فحسب!
رد مبتسماً: لأنك تعلم أننا لا نأتي مؤسساتياً أو ديمقراطياً بل نتيجة علاقات شخصية أو تزكيات ولذلك من الطبيعي أن يكون للتوجيه أثر كبير في عملنا! من هنا ندرك أن منصب الوزير إلى زوال، لذلك يحاول كلّ منا أن يغب قدر ما يستطيع ويبني علاقات أو يرسخ اسمه عند مختلف الجهات، تحسباً لليوم التالي بعد لحظة الرحيل، خاصة أن هذا المنصب يأسرنا إلى الأبد، ولا نستطيع السفر إلى الخارج بعده إلا بموافقة مخابراتية، حتى العمل كمستشارين، وسعيد الحظ منا بعد مرحلة الوزارة من يعين سفيراً!
لعبة التوازن بعد انتهاء التكليف صعبة جداً، لأن ما يتاح للوزير وهو في منصبه، والأبواب التي تفتح له تختلف اختلافاً جذرياً حين تلتصق به مفردة "السابق"! كثيرمن الأبواب ستغلق، والأحقاد والشماتة ونزع القيمة ومحاولة الإساءة سيرتفع منسوبها، بخاصة من قصد الوزير بطلب لم يلبّ، سواء أكان ضمن القانون أو خارجه!
في مرحلة الثورة السورية، كسرت الكثير من حواجز مفاهيم الوزير ممن تم توزيره عند النظام السوري، أو لنقل بطريقة أخرى "ضاعت هيبة منصب الوزير" لأن الكثير من الكفاءات قد اعتزلت أو سافرت، وخوف كثيرين من انتصار الثورة وأنه سيضيع مستقبله بمنصب وزير مع النظام. وقد ضاعت الطاسة عند صاحب القرار (رأس النظام) ولم تعد مهمة الوزير تخضع للتدقيق الذي كان معتاداً، نظرا لانشغال أصحاب القرار بشأن آخر. وغدا الوزير موظفاً يدير المعاملات فحسب وتقلصت نسبة سلطاته كثيراً، لأن موارد الدولة كلها قد وجهت لخدمة العسكر وجيش النظام!
وهذا ما جعل كثيرا من المستوزرين في سوريا يجلسون في بيوتهم ويستنكفون عن نشاطاتهم الأسبوعية، وفئة "المستوزرين والمستنصبين والمتبرلمين" شريحة سورية معروفة، تقضي معظم عمرها في زيارات لفروع حزب البعث وأجهزة المخابرات وإقامة الولائم وتقديم الهدايا على أمل الحصول على منصب، على أمل أنها ستعوض كل ما خسرته عند الحصول على المنصب، اليوم نجد الظاهرة في الكثير من أجهزة المعارضة!
عُرف بين موظفي وزارة التعليم العالي السورية قبل ثورة عام 2011 أنكَ إن أردتَ أن تعرقل توقيع إضبارة لست راضياً عنها، أو قرار غير مستوف للشروط وجاءك ضغط كـ مدير أو مستشار لعرضه على الوزير فأفضل اللحظات هي قبل زيارة المندوب الأمني للوزير، أو بعدها، حيث غالباً سيحول الوزير تلك الإضبارة إلى لجنة للمزيد من دراستها! وظاهر تحويل الإضبارة إلى لجنة مزيد من التحري والدقة في إصدار القرارات الإدارية، لكن الواقع يقول: إنها حالة نفسية يمر بها الوزير أسبوعياً!
وكان ذكاء الوزير لافتاً في التعامل مع المخابرات ومندوبيهم؛ من خلال تخصيص منسق معه من الوزارة ليجيب عن أسئلتهم ويحل ما يحملونه من ملفات (ويرضيهم).
كان هذا المنسق معاون وزير يتسم بعدة سمات شرحها الوزير في إحدى سهراته وهي: أنه من نفس الجهة التي تحكم البلد، وبالتالي له علاقاته وتشابكاته الكثيرة. وكذلك أنه لا يستطيع أحد منهما أن "يبيض" على الآخر في ما يدعى بشؤون المصلحة العامة، وكذلك لكل منهما شبكة علاقاته المخابراتية! وكان ذلك المعاون يعطيه من "الآخر" ما يمكن المساعدة فيه وما لا يمكن المساعدة فيه! أو لنقل باللغة السورية ما يمكن "تمريقه" وما لا يمكن "تمريقه"!
ومما يمكن تمريقه مثلاً الإسراع بمعاملة وتسجيلها على محاضر سابقة، أو توظيف شخص واستثناؤه من شرط النجاح في اللغة الإنكليزية، وهناك بعض الملفات يتم "تمريقها" حين يكون الوزير مسافراً باتفاق مسبق بين الوزير والمعاون الذي يتم تكليفه بتسيير شؤون الوزارة، وإن كشفت تفاصيل الملف كما حدث مرة، تحضر الحجة المكررة: الوزير كان غائباً والمعاون تصرف دون خبرة!
كان من مهام المندوب الأمني المألوفة حين تتم عرقلة إضبارة له، بث الشائعات التي يصفر منها وجه الوزير، كأن يخبر المندوب أحد عيونه في الوزارة أن الوزير سيتم إعفاؤه قريباً، وقريباً هذه قد تصادف بعد أسبوع وقد تكون بعد سنوات في بلد لا أحد يعرف لماذا تقال الوزارة أو ما هي أسس التكليف أو الإقالة!
وهكذا يقوم جواسيس الوزير بنقل تلك المعلومات له، فيبادر للاتصال بمن يعرفهم أو دعوتهم، كي يجس نبضهم، أو يرد على ذلك عبر لقاءات مع أعضاء قيادة قطرية ممن لهم يد طولى أو وزراء مقربون من القصر وكذلك يفتعل لقاء مع رئيس مجلس الوزراء أو وزير ما! أو يمشي معاملة كانت متوقفة حتى لو كانت متوقفة لشخصية مهمة! كنوع من: نحن نمرق ما تريدون وبانتظار توجيهاتكم!
في سوريا تغيير الوزراء عمل مخابراتي محض، حيث إن التغيير الوزاري يرتبط غالباً مع إهانة، إذ يقرأ خبر إقالته عبر الشريط الإخباري على التلفزيون
ولا يتوانى الوزير، إن وجد أن الشائعات مستمرة، عن افتعال زيارات ميدانية يدعو إليها الإعلام لكي يذكر رأس النظام أنه وزير نشيط ومتابع، وأرجوك لا ترد على الوشاة يا سيادة الرئيس، ها أنا أشيد بمنجزاتك التاريخية!
في سوريا تغيير الوزراء عمل مخابراتي محض، حيث إن التغيير الوزاري يرتبط غالباً مع إهانة، إذ يقرأ خبر إقالته عبر الشريط الإخباري على التلفزيون، والشواهد كثيرة! منذ تلك اللحظة يصبح توقيع الوزير غير سار، لذلك "يمرّق" في اليوم الأخير ما يمكن تمريقه من ترقيات أو مكافآت تسجل في الديوان المركزي بتواريخ سابقة!
سألت وزير التعليم العالي مرة حين كنت مستشاراً ثقافياً وإعلامياً له عام 2008:
يا سيادة الوزير؛ لِمَ تخاف من المندوب الأمني، أو إن جاءك اتصال من أحد رؤساء فروع المخابرات!؟
رد علي: هؤلاء متى ما وضعوك في بالهم فإنك لن تنتهي منهم! إنْ خدمتهم، واستجبت لهم سيسجلونها أنك تخالف القوانين! وإن لم تستجب لهم سيشتغلون فيك! أنت خاسر في الحالتين!