تضييق جديد تفرضه سلطات النظام على مصدر أساسي لتمويل معيشة ما لا يقل عن ثُلثَي السوريين، الأمر الذي يُنبئ بانتعاش سوق العملة السوداء مجدداً، ما قد يهدد استقرار سعر الصرف الهش.
فقرار السلطات الأخير، والقاضي بإلزام مستلمي الحوالات المالية بكتابة اسم الأم مع الكنية، بجانب الاسم الثلاثي لمستلم الحوالة وتوقيعه بخط اليد، يعزز نظرة غالبية السوريين لشركات الصرافة المُرخّصة بوصفها فروعاً أمنية.
تبرير السلطات لهذا القرار، كان مثار تندّر لرواد مواقع التواصل الاجتماعي، نظراً لاستخفافه بعقل الجمهور السوري. إذ أشار التبرير إلى ورود حالات كثيرة لتشابه الأسماء الثلاثية لمستلمي الحوالات.
وتطلب مكاتب الحوالات، الهوية الشخصية للمستلم، والتي تحمل رقماً وطنياً خاصاً بكل شخص، إلى جانب رقم خاص بالحوالة (كود) وصورة عن إيصال التحويل. وبالتالي يستحيل حصول أخطاء في تسليم الحوالات بسبب تشابه الأسماء الثلاثية.
سذاجة التبرير الحكومي، دفعت جزءاً كبيراً من مُرتادي مواقع التواصل إلى توصيف القرار، بأنه أمنيٌّ بامتياز.
يعزز هذا التفسير، ما أوردته تقارير إعلامية محلية عن تشديد الأجهزة الأمنية إجراءات تسليم الحوالات في بعض المناطق "الرخوة" أمنياً، كما في دير الزور مثلاً، حيث طلبت تلك الأجهزة من محال الصرافة أخذ صورة شخصية لمستلم الحوالة، حتى لو كان أنثى، إلى جانب التركيز على من تصله حوالات بشكل دوري ومتكرر.
تذهب تقديرات إلى أن سوريا تستقبل يومياً ما بين 3 إلى 5 ملايين دولار، كحوالات خارجية، يستفيد منها نحو 67% من السوريين
لكن تفسيراً آخر للقرار، شاع بين المعلّقين المتفاعلين معه، وهو احتمال فرض ضريبة على الحوالات. وتقتطع مكاتب الصرافة من كل حوالة مبلغ 2500 ليرة سورية (1 دولار بالسعر الرسمي)، تحت عنوان "رسم إعادة الإعمار".
لكن حجم الحوالات الضخم الذي يدخل سوريا يومياً، قد يغري نظام الأسد بعدم الاكتفاء بالمبلغ المتواضع المُقتطع. وتذهب تقديرات إلى أن سوريا تستقبل يومياً ما بين 3 إلى 5 ملايين دولار، كحوالات خارجية، يستفيد منها نحو 67% من السوريين.
أما التفسير الثالث للقرار، فهو احتمال ضم مُتلقي الحوالات إلى الشرائح المستبعدة من الدعم الحكومي.
وكان لافتاً، أن القرار صدَر عن "مديرية المعلومات والبيانات"، التابعة لـ "الهيئة الناظمة للاتصالات والبريد"، التابعة لوزارة الاتصالات.
وكانت تلك الوزارة، أحد الأطراف الحكومية الرئيسية التي حددت نحو 600 ألف عائلة تم استبعادها من دعم المحروقات والسلع الغذائية الأساسية قبل أسبوعين.
رئيس حكومة النظام، حسين عرنوس، أوضح مؤخراً، أن حكومته سائرة باتجاه مزيد من رفع الدعم، بوصفه خياراً لا يمكن الفكاك منه، بهدف سد عجز الموازنة، بطرق لا تؤدي إلى تدهور سعر صرف الليرة السورية، بحسب وصفه.
وتوحي الأرقام التي ذكرها عرنوس، بما ينتظر السوريين في قادم الأيام. فكتلة الدعم في موازنة 2022، والتي تبلغ نحو 6 تريليونات ليرة سورية، يجب تقليصها للحد من عجز الموازنة الذي يتجاوز 4 تريليونات ليرة سورية. وقد وفّرت إجراءات رفع الدعم المُتخذة قبل أسبوعين، تريليوناً واحداً. لكن تلك الإجراءات تسببت بغضب شعبي كبير، نظراً لاستهدافها فئات مهمّشة اقتصادياً، مما دفع حكومة النظام لتغيير بعض معايير رفع الدعم، والحديث عن معايير جديدة مرتقبة.
وأياً كان التفسير الأدق، لقرار حكومة النظام، بفرض "اسم الأم" ضمن بيانات مستلمي الحوالات، فإن نتيجته واحدة. وهو انتعاش شبكات تسليم الحوالات باليد، والتي انكمش نشاطها خلال العام السابق، بعد أن رفعت سلطات النظام سعر تصريف "دولار الحوالات" ليصبح قريباً إلى حدٍ ما من سعر السوق السوداء.
ومع تعزز المخاوف الأمنية من مكاتب الصرافة، أو المخاوف من رفع الدعم عن متلقي الحوالات، أو فرض ضريبة عليهم، سيتجه مزيد من السوريين إلى عالم الحوالات الخفيّ في سوريا. ورغم أن لذلك العالم مخاطره الكبيرة أيضاً، والمتمثلة باحتمال الاعتقال والسجن بتهمة التعامل بغير الليرة السورية، فإنها تصبح شيئاً فشيئاً أقل كُلفة على مُتلقّي الحوالات، من تلك التي تفرضها إجراءات الاستلام عبر مكاتب الصرافة المُرخصة. فمعظم السوريين لديهم مخاوف أمنية من النظام، وبصورة خاصة في مناطق التسويات التي كانت خاضعة سابقاً لفصائل معارضة.
وكلما انتعشت السوق السوداء للحوالات زادت احتمالات تدهور سعر صرف الليرة السورية، لسببين: الأول، زيادة قنوات توفير القطع الأجنبي للمتاجرين بالعملة، والثاني: خسارة مصرف سوريا المركزي لجزء من القطع الأجنبي الآتي عبر قنوات الحوالات الرسمية، والذي يُسلَّم له، مقابل تسليم الحوالة بالليرة السورية لمتلقيها. وبالتالي، ستتراجع إيرادات المركزي من القطع الأجنبي.
نظام الأسد يركز إما على هواجسه الأمنية التي لا تنتهي، أو على كيفية تحصيل ما يمكن تحصيله من جيوب السوريين، حتى لو كان على حساب من يعيش على حوالة لا يتجاوز سقفها 200 دولار
وفيما يمكن أن نجد، مثلاً، تقريراً في وكالة "سبوتنيك" الروسية، نُشر في صيف العام الماضي، يصف الحوالات الخارجية بأنها "خط دفاع السوريين الأخير أمام الحصار الاقتصادي على وطنهم"، ونقرأ تعليقات لإعلاميّ موالٍ يعمل في قناة الميادين الممولة إيرانياً، يدعو إلى تخفيف القيود على حوالات السوريين بوصفها جزءاً أساسياً من مصادر الدخل الحالية في البلاد، متسائلاً: "ما دامت أموال قادمة إلى مناطقنا فلماذا نحاربها؟".. نجد نظام الأسد يركز إما على هواجسه الأمنية التي لا تنتهي، أو على كيفية تحصيل ما يمكن تحصيله من جيوب السوريين، حتى لو كان على حساب من يعيش على حوالة لا يتجاوز سقفها 200 دولار شهرياً (ما يعادل 720 ألف ليرة سورية)، تشكل آخر منجاةٍ للسوريين من الجوع بعد أن وصل حد الكفاف الشهري لديهم إلى أكثر من مليون ليرة سورية.