بعد أن انتهت مهمة الرئيس شارل حلو، بداية سبعينيات القرن الماضي، انقسم المجلس النيابي اللبناني إلى قسمين متساويين تقريبا، وهو يقوم بانتخاب الرئيس الجديد، وقد لزم ميزان شديد الدقة ليتم إعلان هذا الرئيس. كان المجلس النيابي يتألف من ثلاثين مارونيا، وعشرين سنيَّا، وتسعة عشر شيعيا، وأحد عشر من الأرثوذكس، وستة من الكاثوليك، وستة دروز، وخمسة أرمن، وواحد من البروتوستانت، وواحد من الأقليات الأخرى، شكلوا جميعا تسعة وتسعين نائباً، يحملون سمة طائفية وحزبية ووطنية، مجتمعون تحت سقف لاختيار واحد من خمسة مرشحين، ضمن التحديات ذاتها التي تتمحور حول تحديد انتماء لبنان: هل هو عروبي أم غربي يساري أم يميني؟ وإلى أي طائفة ينتمي؟ وكان التداخل الجديد هو أين موقع الفلسطيني من كل ذلك؟
خفف ممثلو التيار الغربي من لهجتهم تجاه الفلسطينيين، ومر اتفاق القاهرة على أمل أن يمر أحدهم ويصبح رئيسا، ولكن بيار الجميل نال عشرة أصوات، وخرج من الجولة الأولى للانتخابات، وخرج معه اثنان آخران، ولم يبق إلا مرشح الشهابية إلياس سركيس، ومرشح اللحظة الأخيرة الوسطي سليمان فرنجية، الذي وقف وراءه كل من له خلاف مع الشهابية، وكانت النتيجة انقساماً يكاد يكون نصفيا، فقد نال سركيس تسعة وأربعين صوتا، ونال فرنجية خمسين صوتا، وانقسمت الأصوات سياسيا ووطنيا وطائفيا أيضا بين المرشحين.. تردد رئيس البرلمان صبري حمادة ذو الاتجاه الشهابي، في إعلان الرئيس باعتبار أن فرنجية نال نصف عدد أعضاء المجلس "زائد" نصف صوت، وليس "زائد" صوت كامل، ولكن بعد هرج ومرج "ديمقراطي"، أعلن صبري حمادة أن الرئيس هو فرنجية، منهيا عهدا شهابيا تضمن كل ما توارثته السياسة اللبنانية من تقاليد، وتردد بين مذهب عروبي وآخر غربي، مع ميل عروبي، وفرض قوة الدولة بتسليط رجال المكتب الثاني مع الكثير من الفساد الرسمي المغطى بحمايات مختلفة..
ما إن جلس فرنجية على كرسي الرئاسة حتى انفجرت أحداث أيلول في الأردن، ونتج عنها رحيل جماعي للمنظمات الفلسطينية من الأردن منتقلة إلى لبنان، ما جعل عدد المقاتلين الفلسطينيين يتضاعف خلال فترة قصيرة، في ذلك الوقت كان حافظ الأسد قد نجح في القبض على زملائه في حزب البعث وانفرد بحكم سوريا، وأقفل جبهة الجولان، فتحول من كان مرابطا من الفلسطينيين على الحدود السورية الإسرائيلية إلى لبنان، وتحول جنوبه إلى جبهة نشطة تشهد يوميا اعتداءات إسرائيلية تحصد الكثير من الضحايا الفلسطينيين، وأيقنت المنظمات الفلسطينية أن لبنان هو نافذتها الشرعية الوحيدة على فلسطين، فسارعت كل منظمة منها إلى تقوية وجودها في الداخل اللبناني، بالتحالف مع إحدى القوى المحلية، واتخذ مرة أخرى هذا التحالف أشكاله السياسية (يمين يسار) وإلى حد ما الطائفية، فقد تغلغلت حركة فتح في الوسط السني اللبناني ووجدت فيه سندا قويا ومفيدا، ووجد بعض القادة الفلسطينيين أن المصاهرة مع اللبنانيين من شأنها أن تقوي أواصر العلاقة.
بدأ فرنجية بتفكيك منظومة المكتب الثاني وهو وجه قوة الدولة الوحيد، وبدأ في الوقت نفسه بتعيين أقربائه في مناصب حكومية، كأحد تقاليد الفساد الحكومي الرسمي، ولكن الاستحقاق الأهم كان إنجاز انتخابات المجلس النيابي، وذلك بعد أن أمضى على كرسي الرئاسة أقل من سنتين. تراجعت الشهابية مع تعاظم القوى اليسارية، وتحت هذه العناوين أجريت الانتخابات في نيسان عام 1972، وأسفرت عن دخول تسعة وثلاثين نائبا جديدا، مع أربعة عشر نائبا كانوا قد فقدوا مناصبهم في الانتخابات السابقة، مما يعني أن أكثر من نصف المجلس السابق قد رحل، وظهر الوسط كقوة كبرى، بتسعة وعشرين مقعدا، وكان يحتل قبلها تسعة عشر فقط، ولكن الأمر المثير للانتباه هو حصول الشيوعيين على عدد كبير جدا من الأصوات، لكنها لاحقا لم تؤدِ إلى نجاح أي منهم، ولأول مرة نجح ممثل عن حزب البعث العربي الاشتراكي في الانتخابات! وهو النائب الطبيب عبد المجيد الرافعي، الذي نال أكبر عدد من الأصوات في طرابلس ففاق أصوات رشيد كرامي بـ 543 صوتا، وبالطبع لم يكن في هذا المجلس أي سيدة..
كان مجلس 1972 علامة بارزة في تاريخ الحياة النيابية اللبنانية، فقد عاش ليشهد الحرب الأهلية، ويشارك فيها، ويبقى نوابه في مناصبهم لمدة عشرين عاما كاملة!