في حين تميل نبرة الشارع السوري نحو الفتور أحياناً، والكلام النمطي أحياناً أخرى، فيما يخص المأزق الحادّ الذي تتشظى في شعابه القضية السورية، وربما كان ذلك بسبب الانسدادات التي تواجهها العملية السياسية، وكذلك عدم بروز أي حدث نوعي من شأنه أن يحفّز النفوس والأذهان، أو يوقظ الآمال بجدوى الاهتمام والمتابعة، إلّا أن تلك النبرة الفاترة سرعان ما تتغلغل فيها السخونة، لتصل إلى درجة التوقّد حماساً وإثارة حيال مسائل وأحداث أخرى، قد لا يراها كثيرون ذات أهمية، أي لا تنطوي على بعدٍ وطني جامع وجاذب لاهتمام عموم السوريين، ولكنها بالرغم من ذلك تسجّل منسوباً مرتفعاً من الاهتمام والتداول، وخاصة على وسائل التواصل الإلكتروني، ولعل اللافت في الأمر، أن مصدر الاهتمام بتلك المسائل ليس عامة الناس، بل ربما بلغ أوجه لدى ما يمكن تسميتهم بالنخب السياسية والثقافية التي غالباً ما تتموضع في منصات إعلامية أو تجمعات وتيارات سياسية أو جماعات ثقافية.
ثمة حادثتان، أشغلت كلّ واحدة منهما قطّاعاً واسعاً من الرأي العام، إلّا أن كلّ قطّاع منهما ينتمي إلى فضاء إيديولوجي مباين للآخر، تتجسّد الحادثة الأولى بقيام إحدى السيدات المنحازات إلى ثورة السوريين، ومن ذوات التوجه اليساري، بوضعٍ ( مؤقت) للحجاب على رأسها، نتيجة ظرف طارئ، وعلى إثْر ذلك استعرت حفيظة جمهور عريض من (مدّعي اليسار) الذي نظروا إلى سلوك تلك السيدة على أنه خرقٌ كبير لمبادئ العلمانية التي هم وحدهم يملكون (صكّ ملكيتها)، وتجاوز كبير للتصورات والأعراف التقدمية التي هم وحدهم – أيضاً – يرسمون معالمها ويحدّدون تخومها، بل إن هولَ الحادثة وفداحة الموقف دفعت البعض منهم إلى التنمّر اللفظي والاستهداف الشخصي لتلك السيدة، متّهماً إياها بالنفاق والمحاباة تارةً، والتخاذل والارتداد عن القيم والمبادئ التقدمية تارةً أخرى، وإذا تساءل المرء، أمام من كان هذا (التخاذل والنفاق المزعومان) سيكون الجواب كما تفصح تفاصيل الحادثة، أمام جمعٍ من النساء السوريات الصابرات المحتسبات في الداخل السوري، وهنّ – كما سواهنّ من السوريين – ما يزلنَ يصارعْنَ شظف العيش وقسوة الحياة من أجل البقاء، ولعلّ اللافت في الأمر، أن الذين كانوا أشدّ تطرفاً في الهجوم وأكثر غيرةً وحميّة على قيم (العلمانية)، وأشدّ حذراً وتنبيهاً لما يحمله (الحجاب المؤقت) من كوارث، هم ممّن لهم أمّهات وأخوات محجّبات! الأمر الذي يدفع إلى الظن بأن حكمة السيدة واجتهادها حيال الموقف الذي ارتأت فيه وضع الحجاب على رأسها هو ما أوغر صدور جمهور (مدّعي اليسار)، بل وربما أوجعهم كثيراً لأن سلوكها يفضح هشاشة وعيهم وزيف أقوالهم التي لا تني تصدع رؤوس الناس ليل نهار، عن الحريات التي يصرّون على أنهم هم أربابها، وعن نواظم التقدّم والحداثة التي هم أنبياؤها المرسلون، بينما يفجؤهم سلوك السيدة ويؤكّد لهم أن التجسيد الحقيقي لقيم العلمانية ينبثق من الإيمان الحقيقي بحرية الآخر واحترام معتقداته ومقدّساته، والسعي الدائم للوقوف أمام ما هو جوهري من الهمّ المشترك أو العام لمعاناة الناس بعيداً عن التعصب الديني أو المذهبي أو العرقي، بل يمكن القول: إن قدرة هذه السيدة العلمانية على الوصول إلى أقرانها من السوريات، سواء في مخيمات اللجوء في الداخل، أو في أماكن أخرى حيث يوجد النازحون السوريون، وحوارها الحميم معهن حول قضايا الشأن العام – سواء أكان ذلك بحجاب أو من دونه – لهو مُنجَز علماني أهم بكثير من الخطابات الزائفة لمتسكّعي وسائل التواصل وخُوّار الآفاق الذين لم يجيبوا على سؤال قديم جديد: أيهما أشدّ فزعاً لكم، رؤية الحجاب على رأس امرأة أم اصطفاف كثير من جحافل اليساريين إلى جانب نظام القتل والإجرام الأسدي؟!.
أمّا الحادثة الثانية فتتجسّد في محتوى الفيديو الذي تداوله كثير من الناشطين على وسائل التواصل، حيث يظهر في الفيديو شخص يُدعى ( أبو العبد أشدّاء)، يتحدث بنقدٍ شديد لهيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً) بل يوجه نقده بشكل خاص إلى أبي محمد الجولاني الزعيم الحالي لهيئة تحرير الشام، كلام المدعو أبو العبد أشدّاء جاء على درجة من الرتابة والتسلسل، مدعوماً بالأدلة والشواهد التي كان يسوقها في تضاعيف حديثه، إذ تكلم على درجات من الفساد ( العسكري – الإداري – المالي ....إلخ ) وتجدر الإشارة إلى أن المدعو أشدّاء كان على خلاف سابق مع قيادة الهيئة، بل كان معتقلاً في سجونها، وهذه ليست المرة الأولى التي يدلي بتصريحات إعلامية مناهضة لقيادة الجولاني، كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أن حديث أبو العبد أشداء جاء لاحقاً للقاء صحفي مع الجولاني أجراه الصحفي الأميركي (مارتن سميث) في شهر شباط الماضي، دون أن يتعرّض سميث لأية مساءلة قانونية من حكومة الولايات المتحدة، الأمر الذي أتاح فضاء واسعاً لجمهور الإسلاميين للحديث عمّا سموه (تحوّلات جذرية) مهمة على مستوى التوجه الفكري والسياسي لهيئة تحرير الشام، ووفقاً لما تم تداوله ضمن منصات الزوم وعشرات الندوات الأخرى حول هذه (التحوّلات) لم يجد قسم من الإسلاميين أيّ حرجٍ في بناء آمال لأدوار جديدة لهيئة تحرير الشام، بعد إعادة بنائها تنظيمياً وإدارياً، و(مكْيَجتها) إيديولوجياً، لتعود المبادرة من جديد إلى أيدي القوى الإسلامية، أي ستكون هيئة تحرير الشام بثوبها الجديد، نواة لمنطلق مسار جديد تقوده القوى الإسلامية في مناطق إدلب وما حولها، وربما امتدت إلى مناطق أخرى. ما كان لافتاً في تحليلات الإسلاميين واستلهامهم لما حدث هو غياب مسألة أظنها على غاية من الأهمية، فلئن كان حديث الجولاني وسلوكه ينطوي على نزعة كبيرة من البراغماتية المعهودة لديه، فإن حديث أبو العبد أشدّاء كان على خلافه تماماً، فضلاً عن نبرة طائفية وعبارات تعيد للأذهان جميع الشعارات الجهادية لتنظيم القاعدة، ممّا يدعو للتساؤل عن طبيعة التغيير الذي يتوقعه جمهور الإسلاميين، أهو تغيير في الكلام أم في مواقع النفوذ داخل الهيئة أو باستبدال الأشخاص وغياب بعض اللحى وظهور أخرى بدلاً عنها، أم هو تغيير في مستوى التفكير والاعتقاد والوعي؟ أم أن الأمر – كما يقول البعض – لا يعدو كونه صراعاً طبيعياً على مفاصل السلطة والمال داخل الهيئة؟.
في ظل استمرار مأساة السوريين، وعدم ظهور أي مسعى دولي ينذر بجدية الاهتمام بالقضية السورية، يراهن كثير من السوريين على ولادة وعي سوري جديد بدأ بالتراكم خلال السنوات الماضية، وأن من شأن هذا التراكم أن يسهم في بلورة رؤية وطنية جامعة، في مواجهة التشظي السياسي والمجتمعي الذي بات سمة واضحة لدى السوريين، إلّا أن هذا الرهان – على وجاهته وأهميته – سرعان ما تنكشف هشاشته وسطحيته، حين نجد أن (الكمّاشة) التي تهصر بين فكيها حياة السوريين، ما تزال تديرها عقول متشابهة.