قدّم عزمي بشارة، في الجزء الأول من هذا الكتاب، دراسة شاملة لظاهرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش". ووضع الإطار العام لمشروع البحث، إذ تناول ظاهرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، في شتى مظاهرها، وظروف نشأتها، وتطورها، وأيضًا مظاهر انحلالها ودمارها الذاتيين، وتناول ما استقرَّت عليه من مفاهيم، وادعاءاتها عن نفسها وما هي عليه بالفعل، وعرَّج على منظِّريها وما حملوه من دعاوى وتصورات عن الذات والغير، ورسم الإطار المنهجي الأوسع لدراستها، وبيَّن فيه الطرق الملائمة لتناول ظاهرة (داعش) المعقدة. وبيَّن المسوغات لاشتراك العديد من باحثي (المركز العربي) المرموقين في إنجاز هذا العمل البحثي الكبير، أما الجزء الثاني للكتاب فقد اشترك في تأليفه العديد من باحثي المركز المرموقين، تناول هؤلاء الباحثون الأوجه المختلفة لتحرك تنظيم الدولة، في محطاته الزمنية، وفي ممارساته في المكان. في العراق وسوريا في زمن التحولات الكبرى، وركزوا أكثر ما ركزوا على جانب الممارسة / التجربة الفعلية في السيطرة وإدارة الأمكنة التي فرض سيطرته عليها، وعلاقته مع الناس والغير، ومرجعياته في الحكم والسيطرة ورؤيته للعام. أي تجربة إدارة التنظيم للناس والأشياء، أوجه تسلطيته وتسلطه، مصادر عنفه وقسوته وبطشه، كذلك ظروف نشأته ونشوئه، وتطوره وتمدده، ومعاينة حياة المجتمعات في ظل سيطرته؛ وذلك ضمن ثمانية فصول تتناول حالتي العراق وسوريا، فضلًا عن بنيته الخطابية، والسياقات الإقليمية والدولية لصعوده وانحساره.. وقد ساهم في هذا الجزء خمسة باحثين. لهذا عملت الورقة على تقسيم مفردات الكتاب بحسب مساهمات الباحثين على التوالي، وعدم التقيُّد بتتابع الفصول. وهو يتكوَّن من مقدمة وثمانية فصول.
أولًا- د. حيدر سعيد: ساهم سعيد بثلاثة موضوعات/عناوين/ فصول، تبدأ بنشأة تنظيم الدولة الإسلامية وجذوره وسياقاته المحلية: حالة العراق، وسياقات سيطرته على الموصل/الفصل الثالث، (وممارسة سلطته)، وبنية خطابه ومصادره في سياقاتها.
1-حاول حيدر سعيد التقاط الصلات التي تربط جهاديي عراق ما بعد الغزو الأميركي للعراق 2003 بالعامل السوسيولوجي الذي يشدهم إلى حال عراق في نهاية عهد صدام، من جهة، وصلات أخرى تربطهم بمفاعيل الغزو الأميركي بما أحدثه من رجَّة للاجتماع السياسي وتبدل مواقع النخب، والتحالفات الإقليمية والمحلية التي استثارت في مجملها رجَّة في الوعي السياسي والمشارب السياسية والأيديولوجية، وأبرزت على السطح ما كان مضمرًا أو كامنًا. فلا ينفصل عنده تنظيم الدولة الإسلامية(داعش) عن "سياقه السوسيو-سياسي".ولا عن " نتاج الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 " [1].
وأشار إلى أنه كان هناك "معبران أساسيان قادا إلى تشكيل (داعش)، هما: الحركة الجهادية الكردية في كردستان العراق منذ أواخر تسعينيات القرن العشرين، وتنظيم أبي مصعب الزرقاوي... كانا بمنزلة القناة التي عبرت منها الجهادية إلى العراق، وداعش هو أحد تشكلات السلفية الجهادية.. التي لم تظل كما هي بعد أن عبرت إلى العراق"( ص 24). ويُبرز سعيد تأثير المعبر الكردي لحساب تضخيم دور الزرقاوي. وهي التي قامت بدورٍ مركزي في تطور تيارات الإسلام السياسي الكردية (ص26 ). ويذكِّر سعيد أن العراق لم يعرف تنظيمًا جهاديًا قبل 2003، وعرف تاريخًا مرتبكًا لـ (الحركة) السلفية مرتبطاً ببعض الدعاة من دون إطار تنظيمي. وبعد الغزو الأميركي حدثت هجرة للمجاهدين من كردستان إلى بغداد، وأشار إلى أن أبا مصعب الزرقاوي عمل على "تجمّع خيوط هذه الديناميكية الجهادية، تحت اسم واحد، مكثف، هو تنظيم الزرقاوي، غير أن سعيد يتحفظ على اعتبار الزرقاوي أبًا لتنظيم الدولة /داعش (ص54 )، وحمل معه النزعة الطائفية ضد الشيعة وإيران. وتقنيات العنف والقسوة والتوحش ( ص57).. ولقد بذل سعيد جهدًا نظريًا كبيرًا لإقناع قارئه بالتباعد بين الزرقاوي وداعش، بين الزرقاوي وأبي بكر البغدادي.
2-وتناول سعيد، في الفصل الثالث، "الطريق إلى سقوط الموصل" في مساء 9 حزيران/ يونيو 2014. فعلَّل حوادث هذا الصعود الخاطف (للتنظيم) بفرضية "فشل الدولة في سياسة التعدد الإثني والديني والطائفي وإدارته، المتقاطع مع فشل مشروع بناء الأمة إلى جانب أزمة النظم الاستبدادية. ودرس فيها الحيثيات الزمنية - الاجتماعية والسياسية التي مكنت داعش من الانقضاض على الموصل. وكانت النزعة الأغلبوية العتبة التي تولدت منها نزعة تسلطية استئثارية، وتزامُن هذه الأزمة مع الثورات العربية وتطوراتها، ولا سيما الثورة السورية ". (ص170 -171). وعزَّز هذا التحول تنكيل نوري المالكي بالسياسيين السنة، وكان هذا التنكيل السبب المباشر الذي أطلق حركة احتجاج واسعة في المحافظات السنية في2012. كما يتعرض سعيد لما يسميه المظلومية السنّية في تداخلها مع (الربيع العربي) الذي كانت له آثارٌ عميقة على مسار العراق السياسي، وقد منحتها الأزمة السورية، بعد تحولها إلى العسكرة العنصر الأكثر حيويةً في استعادة الثقة. ومن ثم، كان نموّ دور التنظيم في سوريا، يوازيه استعادته فاعليته في العراق( ص199-200).
3- وحاول سعيد في بحثه الثالث/ الفصل السابع معاينة خطاب داعش، بحث فيه البنية الخطابية للتنظيم من خلال مراجعة تحليلية لـ "مدوّنته التي أنتجها بنفسه. يتمثل بالنصوص التي وضعها انطلاقًا من تجربته"، وأشار إلى أن، "كتاب إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام الذي صدر عام 2007، هو أول النصوص التي يبدأ معها خطاب ما يُعرف بداعش.. وأول نص يُعبّر عن التجربة العراقية.. ظهر مع الإعلان عن الدولة الإسلامية 2006، وكان بمنزلة النص التبريري" (ص254 -255). فوقف سعيد بصرامة ضد اعتبار كتاب (إدارة التوحش) أحد مصادر داعش في النظرية والممارسة (ص431-434 ). معارضًا بذلك تيارًا واسعًا من الباحثين ومن جملتهم شركاؤه في هذا الكتاب..
ثانيًا: نيروز ساتيك صعود تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق: الخلفيات والممارسات، يستقصي ساتيك عن الممارسة الفعلية، والتجربة الفعلية التسلطية لتنظيم الدولة، فهو بعد توطئة نظرية يبسط فيها فرضياته حول نشوء تنظيم الدولة والبواعث الفعلية التي تقف وراء صعوده في زحمة ثورات الربيع العربي، ينخرط بذهنية السوسيولوجي في مفاصل التجربة السياسية والتنظيمية التسلطية لتنظيم الدولة، في مرحلة تمدّد وسيطرته على بعض المدن وإدارته حياة السكان، معتمدًا بشكل رئيسي على الروايات المباشرة على تماس مباشر بالتجربة معتمدًا على وثائق وشهادات من داخل التنظيم، كما اعتمد بشكل مكثّف على الشهادات الميدانية، فيقدم فرصة للقارئ للاطلاع على الحياة في ظل حكم تنظيم الدولة، وإدارته المحافظات العراقية المختلفة( ص70 ).
ويمكن اعتبار بحث ساتيك تكملة لبحوث حيدر سعيد السابقة، فيرى أن أهم العوامل التي قادت إلى نشأة (تنظيم الدولة) إنما تعود إلى "فشل مشروع الاحتلال الأميركي للعراق في بناء مؤسسات حكومية وطنية عراقية، ونهج الحكومة العراقية في ممارستها سياسات التمييز بين المواطنين العراقيين والإقصاء السياسي"، ويختلف عن سعيد، فهو يرى "أن تنظيم دولة العراق الإسلامية سليل تنظيم أبي مصعب الزرقاوي "جماعة التوحيد والجهاد" وتطوراته ( ص 70 ). وأكد أن " التنظيم ولد من رحم تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين باعتبارها حركة تمرد أو انقلابًا فكريًا وعسكريًا على قيادة القاعدة الأصلية"، ثم أتت سياسة المالكي العنيفة في مواجهة مطالب المحافظات السنية بطريقة عنيفة، فأعطت للتنظيم جرعات من الحياة والصعود ( ص77-78 ).
ينتقل بعدها ساتيك لدراسة بنية التنظيم سوسيولوجيًا وإداريًا. على المستوى السوسيولوجي، فيرى أن التنظيم يعتمد على أربعة أنماط سوسيولوجية بين مقاتليه، النمط الأول: جهاديون فكرًا وعملًا وهدفًا، والنمط الثاني: ينتمون إلى المعتقلين السابقين ضحايا العنف الطائفي، ويمثل الأغلبية المطلقة من التنظيم النمط الثالث: مقاتلو المصلحة، والنمط الرابع: المقاتلون الأجانب. ويعتمد المجلس العسكري في بنيته على ضباط الجيش العراقي السابق (ص90-92 ) أما مجلس الشورى: فيتألف من الخليفة أبي بكر البغدادي وأعضاء آخرين بارزين. وختم ساتيك بحثه بالقول: "نتج تنظيم دولة العراق الإسلامية من الإرث الكولونيالي الأنغلوسكسوني في عام 2003 ومنتوجاته من عنف الحكومة العراقية والطائفية السياسية والتدخل الإيراني في شؤون العراق، حيث استغل لحظة الاحتجاج ضد الحكومة، وهيمن بالقوة والعنف على مساحات واسعة من العراق. مشروع تنظيم دولة العراق الإسلامية نقيض التحرر من الاستعمار" ( ص164 ).
ثالثًا: موضوعات حمزة المصطفى. تناول الباحث المصطفى موضوعين رئيسيين: تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا النشأة والبيئة/الفصل الرابع، تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا التمدّد والانتشار/الفصل الخامس). قدَّم حمزة المصطفى في مبحثيه صورة شاملة متقنة لخريطة تحرك التنظيمات العسكرية للثورة السورية عمومًا، ولتحرك وانتشار تنظيم الدولة تنظيميًا وتوجهًا اعتقاديًا، وانتشاره وتوسع نظام سيطرته، من دون أن يغفل نشاطات وتوجهات المنظمات الأخرى وثقلها السياسي-العسكري أو الاعتقادي. هذه الصورة البحثية الشاملة والعميقة من حيث المحتوى يصعب الإحاطة بها والإلمام بكل جوانبها في الفسحة المتاحة.
آ-تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا النشأة والبيئة، تقصى المصطفى عن جذور ظاهرة الجهادية في سوريا فوجد أنها أتت مع سماح نظام الأسد الابن للجهاديين بالعبور للعراق، وذلك بهدف إشغال القوات الأميركية، ولمنعها من التفكير في تكرار التجربة العراقية في سوريا. وتحقق سعي تنظيم "دولة العراق الإسلامية" في التمدد في سوريا مع اشتداد عنف النظام الذي أجبر الناشطين على عسكرة الثورة، فانفتح الباب أمام الجهاديين لدخول سوريا، وعزز موقف الجهاديين إفراج النظام بمراسيم عفو متكررة عن الجهاديين من معتقلاته، فانطلق هؤلاء لبناء مشروعهم الجهادي يحدوهم خياران، تيار يتبنى خط تنظيم القاعدة، وآخر اقتصر طموحه على داخل الحدود الوطنية السورية (ص224-226). فتأسس على هذا الخيار )كتائب أحرار الشام-حسان عبود). أما أنصار التيار الآخر (الأممي) فأتاهم الفرج من العراق (تنظيم الدولة) الذي أرسل من جهته مؤسس جبهة النصرة، أبا محمد الجولاني، الذي أُفرج عنه من سجون النظام توًّا (ص2229-230.)، وأخفى الجولاني مرجعياته لمعرفته أن البيئة السياسية السورية لا تنسجم والقاعدة، أو تنظيم الدولة وتجنب الصدام مع القوى المحلية.
غير أن البيان التأسيسي للنصرة الصادر في 24 كانون الثاني/ يناير 2012 حسم هويتها ومرجعيتها الفكرية العامة باعتبارها "سلفية جهادية. وساد في المنتديات الجهادية وجهتا نظر تجاهها، الأول اعتبرها نموذجًا تجديديًّا في السلفية الجهادية يتبنى أفكار أبي مصعب السوري عن "لامركزية" الجهاد، هدفها الأول "دفع صائل الغزاة"، لا هدف "إقامة الحكومة الشرعية"، والثاني رأى فيها "الجهاد الشامي" مشروعًا مكملًا لمشروع دولة العراق الإسلامية.. فبدأت طلائع الجهاديين العراقيين أو السوريين المنضمين إلى تنظيم دولة العراق الإسلامية في الوصول إلى سوريا في منتصف عام 2011 لإنشاء قواعد، وبقيت "النصرة" وقائدها تحت مظلة تنظيم الدولة، إلى يوم إعلان البغدادي عن ضمها لدولته، في 9 نيسان/ أبريل 2013، وإلزامها بـ (البيعة) مما أدى إلى انقسام بنيويٍّ فيها، فبايعت أغلبية الأجانب (المهاجرين) البغدادي. (ص234).
غير أن المصطفى رأى أن الخلاف بين النصرة وتنظيم الدولة، الذي نجده في هجوماتهم (النظرية) المتبادلة، يختفي في ممارسة الطرفين العملية "إذ لجأت النصرة إلى أساليب تنظيم الدولة ذاتها، بالاعتداء على الجيش الحر.. وأحرار الشام.. وأقامت محاكم شرعية بقوة السلاح.." (ص339-340).فينبه قارئه إلى أن بعض التجارب الجهادية تحولت إلى (مشروع سلطة هو معطى جديد برز بعد غزو أفغانستان وأصبحت فروع تنظيم القاعدة تتحرك باستقلالية، واهتمَّت بالبعد الهوياتي الطائفي. واعتمدت الفروع على كتاب فقه الدماء لأبي عبد الله المهاجر، وإدارة التوحش لأبي بكر ناجي. وهذان الكتابان أصبحا أيضًا من مرجعيات تنظيم الدولة، فقد طبَّق تنظيم الدولة "مفاهيمه عن التوحش، وطريق (إدارته) على المجتمعات (السنية) في المناطق الخاضعة له.. فكفَّر كل من يخالفه أو لا يخضع لمحاكمه، أو يتعامل مع هياكل إدارية غير تلك التي أنشأها "(ص239-242 ). فيقدم المصطفى بذلك وجهة نظر تجاه كتاب (إدارة التوحش ) مختلفة عن وجهة نظر حيدر سعيد.
ويرجع الباحث حمزة المصطفى قليلًا إلى عراق ما قبيل الانسحاب الأميركي، وقبيل بروز (الصحوات) المعادية للتنظيم، فيؤكد أن هذا النهج العنيف الذي طبقه (تنظيم دولة العراق الإسلامية)،" انعكس سلبًا عليه؛ لأن طموحات التنظيم السلطوية، ونهج (التوحش ) و(النصرة بالرعب) الذي اتبعه، أتاحت للولايات المتحدة فرصة سانحة للقضاء عليه، عن طريق ما عرف بمشروع ديفيد بترايوس، أو ما يسمى "الصحوات"، الذي انتهى بطرد تنظيم دولة العراق الإسلامية من معظم المدن العراقية" (ص244 ).ولهذا يضع المصطفى اللوم، في إحياء التنظيم مجددًا، على سياسة العنف والإقصاء والعنف التي اتبعها نوري المالكي تجاه المكون (السني)،وتجاه التحرك المطلبي للمحافظات السنية، فتحول نهج المالكي هذا "إلى طوق نجاة لتنظيم دولة العراق الإسلامية، فنجح في إعادة تغلغله في البيئات المجتمعية السنية "(ص244 ).ثم تعالى موقعه بعد مداهمات قوات المالكي للمعتصمين، فأبرز نفسه المدافع عن السنة، وبعد أن قوي مركزه في العراق أرسل (الجولاني) إلى سوريا ليؤسس (جبهة النصرة)، ليشكل امتدادًا للتنظيم، مستغلًا عسكرة الثورة السورية ردًّا على عنف النظام وبطشه. وبعد سنة أصبحت (جبهة النصرة) أبرز الفصائل العسكرية السورية، فأعلن الجولاني مبايعة أيمن الظواهري في 15 نيسان/أبريل 2013، ليتخلص من إعلان البغدادي بضم النصرة إلى دولته ومبايعة البغدادي نفسه، ففتح البغدادي باب الصراع مع النصرة على مصراعيه، "مستغلًا انضمام أكثر المقاتلين الأجانب (المهاجرين) إليه " (ص248 ). فدعم الظواهري الجولاني وثبته في منصبه، ورفض فكرة الدمج لتنظيم الدولة. فرد البغدادي برسالة صوتية، في 13 حزيران/يونيو2013) بعنوان (باقية في العراق والشام)، فمثلت رسالته، بحسب المصطفى -" انقلابًا لتنظيم الدولة على تنظيم القاعدة ومشروعه، وانتصارًا للمشروع الجهادي السلطوي المحلي على الفكر والأيديولوجيا الجهاديَّين العالميَّين" (ص249).
ولاحظ المصطفى أن تنظيم الدولة "تجنَّب مواجهة النظام عسكريًّا أو التوسع في مناطقه، وفضَّل التمدد والانتشار في مناطق سيطرة المعارضة؛ لأنها أسهل وأقل كلفة بالنظر إلى انشغال الفصائل بقتال قوات النظام على جبهات مختلفة.. يلتقي في ذلك مع رغبة النظام أيضًا.. وأن المساحات التي سيطر عليها تنظيم الدولة، هي معظمها مساحات مُنتزَعة من فصائل المعارضة"( ص255 ). فكان التنظيم حربًا على التنظيمات والمنظمات الأخرى "استهدف تنظيم الدولة فصائل الجيش الحر المرتبطة بالائتلاف أو بهيئة الأركان أو المموّلة منهما"، وحارب التنظيمات الإسلامية الأخرى.
ب- تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا التمدّد والانتشار/ الفصل الخامس. بحث حمزة المصطفى فيه "تطور نزعة الاستفراد بالمكان لدى تنظيم الدولة والعوامل التي ساعدت في تمدّده، وبيّن أيضًا مناطق توسّعه في سوريا والإستراتيجيات التي اتّبعها في كل منها "وقد توسع المصطفى هنا، في بعض الموضوعات التي مرَّ عليها سريعًا في مبحثه الأول.
أشار المصطفى إلى أن رسالة أبي بكر البغدادي (دولة الإسلام باقية في العراق والشام)، في 15 حزيران/ يونيو 2013، بينت، اهتمام تنظيم الدولة بالاستفراد بالمكان. وصار شعار "باقية وتتمدّد" لازمةً تُردّدها عناصره أو مناصروه، لإثبات أنهم يمثّلون حالة دولتية. ولقد استغل التنظيم انتقال الثورة السورية السلمية إلى العمل المسلح، وخروج مساحات جغرافية واسعة عن سيطرة النظام، هيمنت عليها الفصائل المسلحة، استغل ذلك، لمحاولة التوسع والسيطرة، يحفزه نزوعه "العدواني" لاستئصال أي طرف يعارضه، وقد سبق له أن اتّبع النهج نفسه في العراق في الفترة 2006-2009؛ "( ص289 )..فعمل في سوريا على التوسع على حساب فصائل المعارضة وتجنَّب مواجهة مناطق سيطرة النظام. وإذا كان التنظيم تصرف بحذر في أشهره الأولى، فإنه مع تبدل الظروف، في نهاية العام 2013، أظهر وجهه العنيف، مسلحًا، بحسب المصطفى، بكتاب (إدارة التوحش) لأبي بكر ناجي، فيقول المصطفى، مخالفًا بذلك ما ذهب إليه سعيد "تعمّمت في أدبيات التنظيم مصطلحات استخدمها ناجي في كتابه، وتتشابه بقوة مع ما ذكره ابن خلدون؛ مثل: الجماعة المؤلفة (العصبية)، والولاء والبراء (الحلف والولاء)، والشوكة والتمكين (الغلبة/ التغلب)، والأمير القرشي (النسب الرفيع)، والتوحّش وإدارته (الأمم الوحشية ملكها أوسع)." ( ص 291 ). تتبع المصطفى مجالات توسع التنظيم وانتشاره بالتفصيل ورسم خريطة دقيقة لهذا التوسع وظروفها.
رابعًا: طارق العلي. تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا البنية ومصادر التمويل/ الفصل السادس.
يصب العلي جهوده على التعرف إلى البنية التنظيمية والإدارية لتنظيم الدولة وعلى مصادر قوته ونقاط ضعفه، فيرى أن التنظيم فرز المجتمعات: مؤمن وكافر ومرتدّ، وفق معايير متشددة، ويطبق ذلك على (أهل السنَّة والجماعة). ويجهد لإيجاد مناطق "فوضى" كي يحكم السيطرة عليها لإقامة دولة الخلافة الإسلامية أو إحيائها. والانطلاق إلى "فتوحات الإسلامية" جديدة. ومجمل العنف المختزن لديه فهو جزء من إستراتيجية الطريق إلى "دولة الخلافة". ويسعى لامتلاك حيّزٍ للتمكّن فيه، ومن جراء ذلك صار يحتاج دومًا ودوريًّا للتوسع والانتصار، معتمدًا على أساليب قتالية هجينة، تجمع بين نمطَي "حرب العصابات" و"الحرب التقليدية" (ص370- 377).
ورأى العلي أن التنظيم اعتمد في إدارة المناطق التي تمكّن منها عن طريق "دواوين مختصّة"؛ مع ابتداع وتضخيم وتطوير مثير للاهتمام في المجال "الأمني"، وما يشمله من شرطة وسجون ووسائل تحقيق وعقاب، ومنها الإعدام المسرحي العلني... وتطبيق الحدود والتعزيرات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة، وما توفِّره أدوات الدولة والحكم الحديثة وخبراتها ومهاراتها مع إفراغ هذه المناطق من أي سلطة منافسة. ودأب على إقامة المحاكم الشرعية مع نظام الحسبة و"الشرطة" ونظام الأمن؛ وإدارة الصحة على أساس البنى القائمة. أيضًا إدارة الطرق والأسواق والمرافق. ونظم النفط. واعتمد في تبرير ذلك على مرجعية دينية فقهية (ص 380-383).
خامسًا: د.مروان قبلان، السياقات الإقليمية والدولية لصعود "تنظيم الدولة الإسلامية" وانهياره/ الفصل الثامن
نظر قبلان إلى مسألة داعش من منظور تأثير العلاقات الدولية والإقليمية على مجرى الأحداث والأفكار التي أحاطت بنشأة داعش وتطوره وتفككه، حيث مثّل التنظيم "صدمة للنظام الإقليمي، فعمل قبلان على تتبّع السياقات الإقليمية والدولية المحيطة به، فركَّز على ثلاثية مهمة: الغزو الأميركي للعراق الذي أنتج نظامًا سياسيًا طائفيًا إقصائيًا دأب على اجتثاث بقايا النظام القديم وتهميش المكوّن السنّي، والثاني إيران واستخدامها الشيعة العرب لتحقيق أهدافها. والعامل الثالث ديناميات ثورات الربيع العربي وردَّات فعل الأنظمة العربية عليها، والتي أشعلت فتيل الحل الأمني العنيف، ويُعدّ القمع الذي مارسه النظام السوري ضد الجمهور بمساندة إيرانية، وأتباعها في العراق، ولبنان، عاملًا مركزيًا في صعود تنظيم الدولة الإسلامية. توقف قبلان ليقول إن " صعود تنظيم الدولة جاء ردًا على هذين العاملين أي على ما يسمّى "الأزمة السنّية" التي تفاعلت مع صعود النفوذ الإيراني واتِّباع إيران سياسات الهوية والإقصاء الطائفي. (491-492).
ويحلل الاستجابات الإقليمية والدولية لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية. كما يتوقف عند خريطة التحالفات التي أنتجتها ودفعت بها الحرب على الإرهاب، خصوصًا في ما يخص علاقة الولايات المتحدة باللاعبين الإقليميين الرئيسين: تركيا وإيران والسعودية، حيث وقفت على مسافة مع الأولى، وتقاربت مع الثانية خلال عهد أوباما، ودخلت في تفاهمات مبنيّة على شروط وضوابط مع الثالثة.
فأكد قبلان أنه خلال الاحتلال الأميركي وسنوات حكم المالكي الطويلة، تحوّل العراق نحو الطائفية السياسية، فشكَّل هذا الاستقطاب السياسي الطائفي مناخًا خصبًا لانتشار الفكر السلفي الجهادي الذي استثمرت تنظيماته في هذا المناخ ضمن إستراتيجية تقوم على التحريض ضد الشيعة من منطلق مذهبي من جهة، (ص498) ثم إن التقاعس الدولي أمام مذابح النظام السوري، حرّك مشاعر الغضب تجاه صمت العالم وعجزه عن حماية المدنيين السوريين، وانتقلت إلى الطابع المسلّح، وبروز خطاب طائفي مضاد، وساهم ذلك في إنعاش تنظيم داعش(ص505)،
وفي المحصّلة، أدّت الحرب الأميركية على تنظيم الدولة إلى مزيد من التباعد بين أنقرة والسعودية وواشنطن، وفي المقابل زاد التقارب الأميركي - الإيراني وصل إلى حدّ التنسيق غير المباشر في العراق. أما في سوريا فلم تكن تثق بفصائل المعارضة السورية إما بسبب توجّهاتها الإسلامية، وإما لأنها تعتقد أن تسليحها وتدريبها يفضيان في نهاية المطاف إلى إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، وهذا أمر لم تكن إدارة أوباما متحمّسة له. ودفع ذلك واشنطن إلى الاعتماد على الأكراد بينما رفضت تركيا التوجه الأميركي الداعم للأكراد خشية أن ينعكس ذلك على المسألة الكردية في تركيا. فتمكّن خلالها المقاتلون الأكراد، بدعم جوي أميركي، من صد هجوم تنظيم الدولة ودحره عن مدينة عين العرب التي تحوّلت إلى أيقونة للمقاومة الكردية ضد التنظيم. وفي هذا السياق، ظهرت قوات سوريا الديمقراطية "قسد" الكردية، التي أعلن عن تأسيسها في 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2015، وفّرت لها واشنطن كل أشكال الدعم المختلفة ، وبفضل هذا الدعم تمكّنت "قسد" من تحقيق تقدم ميداني كبير على الأراضي السورية، وتمكّنت من السيطرة على الرقة في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، ليشكل سقوطها ضربة كبيرة لداعش في سوريا بعد أن جرى طردها من الموصل في أيار/ مايو 2017 ( ص 515).
أما تركيا فقد ظلّت ترفض مطالب الولايات المتحدة لفتح مجالها الجوي وقواعدها العسكريّة أمام طائرات التحالف، أو المشاركة في عملياته العسكرية ضد التنظيم، منذ سقوط الموصل في 9 حزيران/ يونيو 2014، وذلك للتباين في رؤية الطرفين الأميركي والتركي لأبعاد الصراع في سوريا والعراق وجوهره؛ إذ أصرّت تركيا على أنها لن تكون جزءًا من الجهد العسكري للتحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة إلا في إطار مقاربة شاملة تؤدي إلى التعامل مع جذور الأزمة (نظام الرئيس بشار الأسد والسياسات الطائفية لرئيس الحكومة العراقية نوري المالكي) التي أدّت إلى نشوء تنظيم الدولة. واشترطت ألّا تستثني عمليات التحالف النظام السوري وإقامة منطقة "آمنة" تشمل حظرًا للطيران شمال سوريا، وتدريب المعارضة السورية المعتدلة وتسليحها لمواجهة النظام السوري وتنظيم الدولة معًا. وحصيلة السياسة الأميركية أنها ساهمت في تعزيز نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وساعدته في السيطرة على الجزء الأكبر من الحدود التركية - السورية، وتأمين تواصل جغرافي بين مناطق نفوذه في القامشلي وعين العرب/ كوباني، وإقامة كانتون كردي (مشروع الإدارة الذاتية)،
أدّت هذه العوامل كلها إلى تغيير الموقف التركي، وتمكّن الرئيس التركي من تحييد الموقف الروسي في الصراع مع الأكراد، بتوجهه إلى إنهاء القطيعة مع روسيا، خصوصًا بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة..
رأى قبلان أنه منذ اندلعت الثورة السورية، اتخذت روسيا موقفًا مؤيدًا للأسد، وحالت دون صدور أي قرار عن مجلس الأمن يدين العنف الذي استخدمه نظامه ضد المتظاهرين. ولم تخفِ موسكو قلقها من تصاعد مد الإسلاميين وساهم النظام السوري في تغذية مخاوف روسيا من تعاظم النفوذ التركي من جهة. فظل اهتمامها منصبًّا على سوريا باعتبارها حلقة الوصل الرئيسة التي تضمن تعزيز قبضتها على إمدادات الغاز الأوروبية، نظرًا إلى وجود مشروعات متعددة، تمثل سوريا نقاط عبور إجبارية فيها. لذلك، عندما تلقّى الرئيس بوتين دعوة من النظام السوري للتدخل عسكريًا إلى جانبه، بعد أن بدأت قواته تتداعى أمام تقدم المعارضة، وبدأت القوات الروسية على الفور في أوائل أكتوبر عام2015 حرب إبادة في السوريين وتدميرًا في عمرانهم، فساهمت روسيا في تثبيت نظام الأسد، مستغلة الارتباك الأميركي، وذكر قبلان، في الختام: إذا لم تتغير السياقات والظروف التي أدّت إلى انبعاثه، فسيظل الفكر الذي أنتج تنظيم الدولة متقدًا، وسوف يعود بأشكال ومسميات جديدة.
[1]مجموعة مؤلفين، تنظيم الدولة الإسلامية المُكنى (داعش)، التشكل والخطاب والممارسة، الجزء الثاني، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018،ص23.