رمّم نظام الأسد نفسه جزئياً، وتماسك. وأدى رئيسه القسم أمام جمعٍ من النخب الموالية له. وألقى خطاباً وعظياً جديداً. فكيف تمكن النظام من النجاة والتماسك والاستمرار، رغم ضخامة حدث الثورة عام 2011 وما أتبعه من تطورات؟
كانت هناك محاولة موفقة نُشرت في هذه الزاوية خلال الشهر الفائت، للأستاذ رضوان زيادة، في مقالتين حول "العصبية العلوية"، قدّمتا جانباً من التفسير الذي يشرح، كيف نجى النظام من حدث بضخامة ثورة عام 2011. واستند التفسير إلى مدخلين نظريين، مفهوم "العصبية" وفق ابن خلدون، والنظرية الاجتماعية للصراع. ونعتقد أن هذين المدخلين يشرحان بالفعل، بعداً مهماً يتعلق بسرّ تماسك نظام الأسد. واستتباعاً لهذا النقاش، وإغناءً له، قد تكون الاستعانة بمدخلٍ آخر، يتمثل في نظرية النخبة – الأقلية، إضافة مفيدة لاستكمال بعدٍ آخر في محاولة فهم سرّ تماسك النظام السوري واستمراره.
وفي شرح للفكرة المحورية التي تقوم عليها هذه النظرية الشهيرة في أدبيات علم السياسة، تقول نظرية النخبة – الأقلية، بوجود جماعة صغيرة تسيطر على المجتمع وتتركز لديها القوة. وقد يكون الفارق الأساسي بين ركيزة هذه النظرية، وبين ركيزة نظرية العصبية وفق ابن خلدون، أن الأخير ينسب "العصبية" أو الأقلية، إن صح التوصيف، إلى بعدٍ قبليّ. وقد ذهب منظرون سياسيون بهذه "العصبية" إلى أبعاد أخرى، على صلة بالقبيلة، مثل الطائفة أو الدين، أو الطبقة الاجتماعية. أما منظرو نظرية النخبة فلا يعترفون بالتقسيمات التقليدية (القبلية، الطائفية، الدينية، العرقية..) ضمن الظاهرة السياسية. ويعتقدون أن المجتمع مقسم أفقياً لطبقات أو مراتب مرتبطة بمعايير معينة، اقتصادية وغير اقتصادية. هذه الطبقات عابرة لكل مكونات المجتمع التقليدية (القبلية، الطائفية، الدينية، العرقية..). بمعنى، أن النخبة – الأقلية الحاكمة، لا تنتمي بالضرورة إلى نفس الخلفية (القبلية، الطائفية، الدينية، العرقية..).
لكن ما هو مصدر قوة النخبة – الأقلية الحاكمة؟ قد تكون أفضل الأجوبة على هذا التساؤل، في أوساط منظّري مدرسة النخبة – الأقلية، هي تلك التي يقدمها، غايتانو موسكا، عالم السياسة الإيطالي (1858 – 1941)، الذي أرجع قوة النخبة – الأقلية الحاكمة، إلى جانبين، الأول: القدرات التنظيمية، والثاني: السيطرة على مفاتيح القوة في المجتمع (العسكرية، الاقتصادية، الرموز الدينية). وقد نجد توصيف موسكا هذا، جلياً في أداء مؤسس النظام، حافظ الأسد، ووريثه، بشار، الذين عملا بشكل مكثف لإحكام السيطرة على هذا الثلاثي: الجيش، عالم الأعمال، ورجال الدين المؤثرين.
النخبة – الأقلية الحاكمة، كي تستمر، عليها أن "تمتص" الأشخاص من خارجها، وتدمجهم في إطارها، كي لا يتجمع ما يمكن أن يكون "نخبة – أقلية مضادة"
أما حول كيف تحافظ النخبة – الأقلية، على استقرارها واستمرارها؟ فنجد جواباً شهيراً في أدبيات علم السياسة، ذاك الذي قدمه عالم الاقتصاد والسياسة الإيطالي، فيلفريدو باريتو (1848 – 1923)، الذي أطلق مفهوم "دوران النخب". وهذا المفهوم تحديداً، يقدم لنا تفسيراً لسبب صعود رجال أعمال ورجال دين، وشخصيات سياسية جديدة، إلى الواجهة في سوريا، خلال السنوات الأخيرة، برعاية من النظام نفسه.
إذ يعتقد باريتو أن النخبة – الأقلية الحاكمة، كي تستمر، عليها أن "تمتص" الأشخاص من خارجها، وتدمجهم في إطارها، كي لا يتجمع ما يمكن أن يكون "نخبة – أقلية مضادة". وهذا يشكل نوعاً من التجديد لـ "دماء النخبة"، يتيح الاستفادة من مواهب وإمكانات جديدة، لدى المندمجين الجدد.
بطبيعة الحال، تتعارض مدرسة النخبة – الأقلية، مع مفهوم العصبية وفق ابن خلدون، واستخداماتها بالمنحى التقليدي، الذي استخدمه رضوان زيادة في تعبير "العصبية العلوية". لكن، في دراسة وتحليل الظواهر السياسية، على الباحث أن يستخدم النظريات كأدوات، دون أن يعني ذلك تبنيها كليةً. بصورة تسمح لتلك النظريات أن تتكامل في شرح الظاهرة السياسية المدروسة.
وفي حالة النظام السياسي السوري، تُكمل نظرية النخبة – الأقلية، نظرية العصبية وفق ابن خلدون، لتشرح لنا، لماذا طفت أسماء مثل سامر فوز وحسام قاطرجي ووسيم القطان، على واجهة عالم الأعمال، بصورة مفاجئة؟ ولماذا يعتمد النظام على استراتيجية تغيير الوجوه الأمنية والعسكرية الكبيرة، كل فترة، تحديداً في السنوات العشر الأخيرة؟ إلى جانب دفع النظام لوجوه "دينية" جديدة لتصدر المشهد "الديني" في مناطق سيطرته؟ تلك الأسئلة تجد إجابة مقبولة في مفهوم "دوران النخب"، الذي تعتمده الأنظمة السياسية، لترميم نفسها، وضخ دماء جديدة في أروقتها، دون أن ينفي ذلك، البعد "العصبي" للدائرة الضيقة في رأس هرم النظام، وضمن ركيزته القسرية المتمثلة في الجيش بصورة خاصة.
لكن البعد "العصبي"، لا يكفي لشرح لماذا يحرص النظام على استمالة فاعلين من خلفيات أخرى، ليصبحوا جزءاً من نخبته الحاكمة. تفسير ذلك، تقدمه نظرية النخبة – الأقلية الحاكمة، التي توضح أنه إن فشلت تلك النخبة – الأقلية في امتصاص أشخاص مفيدين من خارجها، وتجديد دمائها، فإنها في نهاية المطاف، ستنهار، وتُستبدل بنخبة – أقلية مضادة.
وفيما تراهن النظرية الخلدونية على استبدال عصبية بأخرى، في تفسير انهيار الأنظمة الحاكمة وصعود أخرى بديلة، تقدم نظرية النخبة – الأقلية، تفسيراً آخر، يراهن على وجود نخبة – أقلية مضادة، قادرة على إزاحة تلك التي تحتكر القوة في المجتمع. وفي هذه الحيثية الأخيرة، تكمن إحدى الإجابات النظرية لسؤال: كيف نزيح نظام الأسد؟ فهل تستطيع المعارضة السورية تشكيل نخبة – أقلية مضادة؟ قد يدخل التساؤل الأخير في باب التنظير الصرف. لكنه يفتح الباب للتفكير في سياقات مختلفة لمقاربة المعضلة السورية. قد يكون أحدها الاستفادة من الأفكار التي تقدمها نظريات سياسية، من بينها، نظرية النخبة – الأقلية. من تلك الأفكار التي يمكن أن تكون مفيدة، إن أبرز مصادر قوة النُخب، تكمن في قدراتها التنظيمية. وذلك يحيلنا إلى أبرز نقاط ضعف المعارضة السورية.
ومن مصادر القوة التي يجب العمل على تحصيلها أيضاً، محاولة التشبيك مع مفاتيح القوة في الداخل السوري، على صعيد رجال الأعمال والرموز الدينية، إن كان من الصعب، التشبيك مع قوى داخل الجيش والأمن. فهل نملك معارضة متماسكة قادرة على تحصيل مصادر قوة من هذا النوع؟
نحن بحاجة لبناء نخبة - أقلية مضادة، تعمل رويداً رويداً، على تملّك مصادر القوة، التي تتيح لها مقارعة النظام السوري
الإجابة في الوقت الراهن، بالنفي. لكن إن توافرت رؤية وفهم واضح لما يمكن فعله، قد تكون التساؤلات السابقة مفيدة في بناء تصور لما يمكن فعله لتغيير الواقع القائم في سوريا، وبأدوات سورية. فنحن بحاجة، وباختصار، لبناء نخبة - أقلية مضادة، تعمل رويداً رويداً، على تملّك مصادر القوة، التي تتيح لها مقارعة النظام السوري. وتوصيف النخبة – الأقلية، لا يحمل في معرض نقاشنا هذا، بعداً عرقياً أو طائفياً، لكنه يحمل بعداً تنظيمياً من جانب، وبعداً يتعلق بتجميع أشخاصٍ من أصحاب القدرات المالية، ومن ذوي التأثير الاجتماعي والديني. أي، ممن يملكون ميزات تجعلهم قادرين على تجميع مصادر القوة المفصّلة أعلاه.